الدكتور توفيق هندي
بمناسبة إطلاق لقاء قرنة شهوان بتاريخ 30 نيسان 2001، آثرت أن أتحدث عن ظروف إنشائه، مسيرته، ونهايته، سعيا" إلى إستخلاص العِبَر وصولا" إلى تشكيل تجمع لخلاص لبنان الذي يعيش اليوم مأساته الوجودية الأخطر.
كانت سنة 1991 مفصلية بالنسبة للبنان. دخل حافظ الأسد في التحالف العسكري الذي قادته واشنطن لتحرير الكويت من الإحتلال العراقي في وقت كان الإتحاد السوفياتي، الحليف الإستراتيجي لسوريا-الأسد، يلفظ أنفاسه الأخيرة. وما إن إنتهت الحرب إنطلق مسار مدريد التفاوضي بين إسرائيل والعرب. دهاء حافظ الأسد "البراغماتي" جعله يدخل هذا المسار، منقلبا" على "مبدئيته" البعثية التي تمسك بها طيلة المرحلة السابقة، مستندا" على تحالفه الإستراتيجي مع الإتحاد السوفياتي، القائلة برفض أي مفاوضات مع إسرائيل قبل تغيير موازين القوى معها.
نتج عن إنقلاب الأسد على تموضعه الإستراتيجي، تقاطع مصالح دولي-عربي-إسرائيلي أدّى إلى تسليم لبنان رسميا" لسوريا، لتطبيق اتفاق الطائف بالشكل، ولكن، في واقع الحال، لتديره وفقا" لمصالحها. ومن أسباب تسليم الثنائي الإميركي-الإسرائيلي لبنان إلى الأسد، القلق من علاقة المسيحيين (القوات اللبنانية وجيش عون) بعراق-صدام الذي كانت تعتبره إسرائيل العدو الأخطر، ومن ناحية أخرى، الثقة بمصداقية الأسد وجديته في الإلتزام بالهدوء على حدود الجولان على أن يتمدد إلى الحدود اللبنانية حتى رأس الناقورة، وقدرته على ضبط عمليات "حزب الله".
وقد قال لي سفير واشنطن في لبنان في مرحلة الوصاية السورية (أي مرحلة الإحتلال السوري في واقع الحال)، أن "عليكم التأقلم مع الوجود السوري في لبنان لأنه قد يكون أبديا".
أنتجت هذه الأجواء تقاطعات وحركة إتصالات كبيرة في الأوساط المسيحية (الخارجة لتوّها مُحبطة" من حربي الإلغاء والتحرير) تتعلق بالموقف من الإنتخابات النيابية لعام 1992 بحيث تمت مقاطعتها، فلم تتجاوز نسبة الإقتراع المسيحية ال 13% ونسبة الإقتراع العام ال 30%، تعبيرا" عن رفض وضع سوريا يدها على لبنان. وكانت تلك التقاطعات مثابة عمل جماعي، وإن لم يرتقِ إلى إطار تحالفي ثابت ودائم.
فكان أن دخل لبنان ما سُمي بالنظام الأمني السوري-اللبناني: دولة لبنانية شكلية بمؤسساتها كافة يديرها مخابراتيا" وأمنيا" الممسكون السوريون ب"الملف اللبناني"، كما صار إسمه، أي عبد الحليم خدّام في شكل رئيسي في سوريا وغازي كنعان في لبنان، في ظل حكومة رشيد الصلح القصيرة العمر (5 أشهر) التي تلت حكومة عمر كرامي ومهّدت الطريق لرفيق الحريري لرئاسة الحكومة عبر اتفاق السعودية مع سوريا-الأسد. وكنت على علم قبيل إسقاط حكومة كرامي من خلال إحداث تدنٍ صاروخي في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار وتحركات الشارع التي أنتجها، بأن ساعة رفيق الحريري قد دقت.
في 23 آذار 1994، حلّ النظام الأمني السوري-اللبناني حزب القوات اللبنانية وفي 21 نيسان إقتيد الدكتور سمير جعجع إلى المعتقل. حوالي ستة أشهر قبل الإنتخابات النيابية لعام 1996، إتصل بي المغفور له الإستاذ جبران تويني عارضا علي مقاطعتها وطالبا" وضع الخلافات وراء ظهرنا للقيام بعمل جماعي في هذا الإتجاه. وكانت آنذاك علاقاته ب"القوات" في غاية السوء نتجية لموقفه الداعم للجنرال عون في حربه ضدها، وأيضا" نتيجة شهادته ضد جعجع أمام المحكمة بقضية إغتيال داني شمعون وعائلته. فقبلت عرضه من دون تردد، وتواصل الأفرقاء المسيحيون كافة في ما بينهم بإعتبار أن الحاجة ملحة إلى تضافر الجهود لمواجهة هجمة سوريا-الأسد على اللبنانيين، وخاصة المسيحيين، إذ أنها كانت تعتبرهم حاجزا" أمام مشروعها ضم لبنان لسوريا. فتوالت الإجتماعات في مقر حزب الأحرار في السوديكو. وجُلنا سويا" على القرى والأحياء للدعوة لمقاطعة الإنتخابات. أما الأطراف التي كانت مشاركة في إجتماعات السوديكو، فكانت "التيار العوني"، حزب الأحرار، "المعارضة الكتائبية"، حزب الكتلة الوطنية و"القوات اللبنانية" وبعض الشخصيات السياسية.
غير أن "القوات" كان وضعها خاصا. فهي محظورة ورئيسها في المعتقل و"يُحاكم". ومن يوم إعتقاله، تواصلتُ مع كوادر أساسية في القوات ترغب باكمال الطريق وإبقاء "القوات" حيّة على قاعدة التمسك بمسلماتها والسعي لإخراج السوري من لبنان، مما كان ليؤدي تلقائيا" إلى خروجه من المعتقل. كما كان تواصلي دائما مع السيدة ستريدا جعجع بصفتها زوجة جعجع ومتاح لها التواصل معه بالحد الأدنى وممسكة بملف الدفاع القضائي عنه. وكنت أتحرك بصفتي المستشار السياسي لقائد "القوات" المحظورة. وفي تلك الفترة، أطلقت مفهوم "تيار القوات اللبنانية" في مقابلة أجرتها معي مجلة "المسيرة"، على قاعدة أن "القوات" محظورة كحزب،أما القواتِّيون فحقهم أن يتحركوا كمواطنين لبنانيين تجمعهم تطلعات مشتركة.
لقاء خارج المألوف
بعيد الإنتخابات، عرضت في إجتماع لمسؤولين قواتيين حضرته السيدة جعجع ضرورة أن يتحّول الإجتماع لمقاطعة الانتخابات إلى إطار جبهوي له صفة الإستمرارية، لما له من أهمية في المستويين الوطني والمسيحي، ومما كان ليسمح ل"القوات" بترميم علاقاتها المهتزة مع الأطراف المسيحية ويشكل درعا" واقيا" لها في تلك المرحلة الصعبة التي كانت تجتازها. وكنت قد وضعت ورقتين: واحدة عنونتها "مشروع لميثاق جبهة الخلاص الوطني" وثانية بعنوان "البرنامج المرحلي".
وبناء" عليه، سافرت في 18 أيلول 1996 إلى باريس لألتقي تباعا الجنرال عون والرئيس أمين الجميل والعميد ريمون إدّه وعرضت عليهم الوثيقتين وناقشتهما على حدة مع كل منهم. غير أنني فوجئت عند عودتي في 29 أيلول، بمسار أدّى إلى إعلان ما سموه ب"جبهة المعارضة اللبنانية" تضم "التيار العوني"، حزب الأحرار، "المعارضة الكتائبية" وحزب الكتلة الوطنية بإستثاء "القوات".
أترك تفاصيل هذا المسار وأسباب إستثناء "القوات" لكتاب قيد التحضير بعنوان "من اليسار إلى القوات وما بعد". في مطلق الأحوال، لم يكتب لجبهة المعارضة اللبنانية أن تنجح وكانت حياتها قصيرة.
في أواخر 1998 سّرع حافظ الأسد، المريض آنذاك، عملية توريث نجله بشّار. فبدأ بتسليمه "الملف" اللبناني وأراد لبشّارأن يحيط نفسه بفريق عمل جديد لتدارك إحتمال إقدام الحرس القديم (ولا سيما عبد الحليم خّدام وحكمة الشهابي ومصطفى طلاس وغازي كنعان) على إعاقة تسلمه للسلطة بعد وفاته. وكان الحرس القديم على علاقة تنسيقية جيدة مع الحريري وجنبلاط في لبنان.
بشّار هو من أتى عمليا بإميل لحود رئيسا للبنان. ولذا، كانت علاقات هذا الأخير مع الحريري وجنبلاط غير سوية، إن لم نقل متوترة، على نقيض علاقة إلياس الهراوي بهما. وعلى هذه الخلفية أتى لحود بسليم الحص رئيسا" للحكومة في بداية ولايته، إستبعادا للحريري. ولكن إضطر أن يعيده إلى رئاسة الحكومة بعد تحقيق هذا الأخير نجاحا" كبيرا" في الإنتخابات النيابية سنة 2000.
هذه التطورات ستشكل دافعا لجنبلاط أولا ومن ثم الحريري للإلتحاق بالتيار السيادي.
وكنت صرّحت في 26 كانون بعد لقائي وغبطة البطريرك صفير - وكانت تربطني به علاقة مميزة جدا" – بأن قانون الانتخابات النيابية المقررة سنة 2000، يتطلب توافقا لبنانيا شاملا كي لا تتكرر تجربتا انتخابات 1992 و1996 حيث أضحت الانتخابات تعيينا غير مباشر للنواب من قبل سلطة الوصاية السورية.
والحقيقة إنني كنت قد إلتقيت الدكتور سليم الحص قبل ذلك ، وكانت تربطني به علاقات قائمة على الإحترام المتبادل منذ زمن بعيد. وأقترحت عليه أن يدير حوارا" شاملا" بين اللبنانيين كي يتوافقوا على قانون انتخابي. فطلب من وزير العدل آنذاك جوزف شاوول أن يفتح الباب أمام واضعي أفكار واقتراحات بمشروع قانون أن يتقدموا من أجل جوجلة كافة المشاريع بهدف التوصل إلى قانون يمكن أن يكون قاسما" مشتركا" لكافة الأطراف اللبنانية. وشخصيا" تقدمت بمشروع قانون يفي بالغرض في رأيي. وأوكل غبطة البطريرك صفير لسيادة المطران يوسف بشارة مهمة توحيد رأي الفئات المسيحية المتحررة من الوصاية السورية حول مشروع لقانون انتخابات أو أقله حول معاييره. وفي 13 نيسان 1999 عُقد أول لقاء للتشاور في موضوع الانتخابات النيابية بدعوة من سيادة المطران يوسف بشارة في مطرانيته في قرنة شهوان، وضم اللقاء أكثر من 25 حزبا" وتيارا" وشخصية كان أبرزها الوزير فؤاد بطرس.
كان ذاك النموذج الأول للقاء قرنة شهوان لكنه لم يتصف بالإستمرارية لأن موضوعه كان محددا" من ناحية، ولأن الظروف لم تكن ناضجة كفاية" من ناحية ثانية، كما أنّ الرئيس أميل لحود، ومن ورائه الوصي السوري، كان ينظر بعين الريبة لكل تلاقٍ بين لبنانيين ويرى فيه مؤامرة تستهدفه، من ناحية ثالثة.
ولم يطل الوضع حتى إستدعتني مخابرات الجيش ل"اقفال ملف معين" على حد قول المسؤول الأمني لجبل لبنان الذي إستدعاه البطريرك صفير للإستفسار والإعتراض. قلت له بحضور البطريرك صفير "أن أي محاولة للمسّ بي هي مسّ بالبطريرك بالذات". والواقع أن ذلك الاستدعاء كان مؤشرا"إلى ما سوف أتعرض له في 7 آب 2001 عندما إعتقلت و"حوكمت" بتهم باطلة أمام المحكمة العسكرية وطلب لي المدعي العام العسكري حكم الإعدام.
وإنتهت لقاءات قرنة شهوان بوضع تصور لما يجب أن تكون عليه الانتخابات النيابية المقبلة. غير أن السلطة الأمنية السورية-اللبنانية أجرت إنتخابات عام 2000 وفقا" لقانون غازي كنعان وبالطريقة نفسها التي فرضتها في انتخابات 1992 و 1996.
لقاء قرنة شهوان غير العلني
شهدت سنة 2000 ثلاثة تطورات إستراتيجية متلاحقة في فترة 75 يوما سمحت للقوى السيادية بإطلاق مسيرة التخلص من الاحتلال السوري:
أولا فشل المفاوضات السورية-الإسرائيلية لرفض حافظ الأسد عرض يهودا باراك بما يخص الإنسحاب الإسرائيلي من الجولان في لقائه مع الرئيس كلينتون في جينيف بتاريخ 27 آذار 2000.
ثانيا إنسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب في 25 أيار 2000.
ثالثا وفاة حافظ الأسد في 10 حزيران 2000.
لا شك أن انسحاب الجيش الإسرائيلي شكل أهم تطور، إذ أن المطالبة بإخراج سوريا من لبنان في ظل احتلال إسرائيلي لجنوبه كانت تُواجه بأنها مثابة خيانة. هذا الانسحاب حرّر بكركي والقوى السيادية من التهمة الباطلة أصلا". وفي تلك المرحلة تحديدا" توطدت العلاقات بين الأطراف السيادية، وبرعاية البطريرك صفير تشكّل "لقاء قرنة شهوان" غير العلني الذي مهّد لولادة اللقاء العلني في 30 نيسان 2001. وكانت إنطلقت سابقا" لجنة التنسيق الثلاثية التي ضمّت "التيار العوني" و"القوات" والأحرار، وكانت تجتمع في مقر حزب الاحرار في السوديكو تعبيرا" عن تنسيق قاعدي بين الأطراف الثلاثة، تصدر بيانات وتنسّق النشاطات النضالية لمواجهة الإحتلال السوري. كان دوري شمعون يترأس الاجتماعات واللواء نديم لطيف يمثل "الوطني الحر" وأنا أمثل "القوات" في هذه اللجنة. والجدير بالذكر ان الدور الأساسي أدّاه سامي نادر بالوكالة عن عون في التنسيق مع "القوات"، وبتشكيل اللجنة الثلاثية.
أما أعضاء لقاء قرنة شهوان غير العلني فكانوا : الشيخ ميشال الخوري، سيمون كرم، فريد الياس الخازن، شكيب قرطباوي، فارس سعيد، سمير فرنجيه ، سمير عبد الملك، سليم سلهب، إيلي كرامه (المعارضة الكتائبية)، سامي نادر (تيار وطني حر)، توفيق هندي (تيار القوات اللبنانية)، إلياس أبو عاصي (الأحرار).
يتبع...