يقفل عام 2022 الباب على أسوأ المراحل التي يعيشها لبنان من أزمات متراكمةوالتي رمت بثقلها على جوانب الحياة شتى. لم يكن الأمر أقل سوءاً على صعيد الحريات العامة. تقاذف أفرقاء السياسة مسؤولية الانهيار وقمعوا واعتدوا على الأصوات المعارضة. وفي أيار الماضي، لم تستسغ أحزاب السلطة وميليشياتها الإلكترونية والبشرية مشاركة وترشح من هم معارضون لها فأثقلوهم تهديداً وعنفاً وكم أفواه.
جمعيات ومنظمات غير حكومية رصدت واقع الحال في لبنان، ويصرّح الناطق الإعلامي في مؤسسة سمير قصير جاد شحرور بأن "معدل الانتهاكات في عام 2022 كان أقل حدة من عامي 2019 و2020 حين كانت انتفاضة 17 تشرين في زخمها، بل أثرت الأزمة الاقتصادية والسياسية في الواقع العام وكانت حالة القمع الموجودة تتخذ اشكالاً مختلفة مع تقدم الأزمات".
74 انتهاكاً، للصحافيين حصّة الأسد
يكشف جاد شحرور عن معدل الانتهاكات الذي وصل في شهر أيلول إلى 74 انتهاكاً وتقدم اللائحة نسبة الاعتداءات على الصحافيين "وهذا الأمر لافت لأن الاعتداء على الإعلاميين اتخذ شكلاً أكثر عنفاً من ذي قبل بتسهيل من السلطة السياسية".
لم يكن هناك أي شكل من أشكال المحاسبة لا لعناصر الأجهزة الأمنية المعتدية ولا للميليشيات التابعة للأحزاب الحاكمة. وهذا برأي شحرور يعزّز مبدأ الإفلات من العقاب، معتبراً أن الاعتداء على أي صحافي بغضّ النظر عن هوية المؤسسة الإعلامية هو مشهد مقلق.
مكاتب الرقابة تتخذ أشكالاً مغايرة لوظيفتها
من جهتها، لم تكتف مؤسسة "مهارات" برصد الانتهاكات التي طالت الجسم الإعلامي بل وثقفت حالات انتهاك الدستور وقمع الحريات المدنية والسياسية.
يشرح المحامي طوني مخايل بإسهاب منطلقاً من حرية الرأي والتعبير والشوائب الدامغة وخاصة أن النيابة العامة ما زالت تمارس رقابة قضائية على الحريات. ويجري التعامل مع الصحافيين وخاصة العاملين في مجال النشر الإلكتروني بانحياز وكأنهم مجرمون، حيث يُستدعَون إلى المباحث الجنائية المركزية التي تنظر في الجرائم الكبرى أو إلى مكتب الجرائم المعلوماتية الذي تحوّل من مكتب لمتابعة الجرائم المالية وعمليات الابتزاز إلى أداة لملاحقة الناشطين والصحافيين.
يشير طوني مخايل إلى أن أبرز الانتهاكات التي تعتمدها هذه المكاتب هو مصادرة الهواتف والاطلاع على المحتوى الشخصي للأفراد وممارسة الضغط وتأويل المنشورات وهذا تدخل سافر في حرية الصحافي والناشر وخاصة أن المدّعين عادة ما يكونون إما من السلطة أو من النافذين.
حملات كراهية ضدّ النساء العاملات في الشأن العام والسياسة
ويتابع "ما زال مسلسل الاعتداءات والإفلات من العقاب بحق الصحافيين مستمراً، وقد رصدنا في عام 2022 مجموعة من الاعتداءات بحق الصحافيين والإعلاميين وحتى بحق المراكز الحقوقية التي تدافع عن جماعات محددة. وأسوأ ما في الأمر هو تجهيل الفاعل وهذا ما يكرّس مبدأ الإفلات من العقاب".
من الانتهاكات التي وثّقتها "مهارات" عام 2022 ممارسة العنف الإلكتروني الموجه ضد المرأة العاملة في الشأن العام، وهذا ما حوّل منصّات التواصل الاجتماعي جزءاً من المشهد الإعلامي ككل، حين شهد العام المنصرم انتخابات نيابية شاركت فيها 118 مرشحة كنّ ناشطات على منصات التواصل الاجتماعي. وبحسب دراسة أعدّتها المؤسسة تبيّن أن 43% من المرشحات تعرّضن لعنف إلكتروني على صفحاتهن الشخصية. وبدأ العام الماضي بحملة كراهية ذات طابع عنصري ضد الإعلامية داليا أحمد، وأيضاً كانت الإعلامية ديما صادق عرضة مستمرة لحملة من الكراهية كانت تطال في بعض الأحيان ابنتها.
كذلك ما زالت السلطة الأمنية والقضائية تتعامل بطريقة قمعية تجاه الرأي النقدي والساخر وهذا ما ظهر في قضية شادن الضعيف التي شاركت مقطع فيديو يتعلق بحقوق المرأة خلال فترة الحجر الصحي وصدر حكم بحقها من المحكمة العسكرية.
في الانتخابات النيابة: تحركات ميليشياوية وضغوط عنفية ضد المرشحين المعارضين
كانت انتخابات أيار نقطة مفصلية كي تمارس السلطة وميليشياتها أنواع القمع والترهيب شتى، إذ إن الانتهاكات طالت هذه المرة الحريات المدنية والسياسية عبر المضايقات التي طالت الحق في الترشح والانتخاب، ومنها الحملات على المرشحين ومنع انعقاد مؤتمرات وتجمعات تخصّهم، وهو ما رأيناه في الجنوب عند إطلاق لائحة الجنوب للتغيير في دائرة الجنوب 2 واستهداف حفل إعلان اللائحة وإلغائه تحت تهديد واستعمال السلاح بالإضافة إلى حملة الضغوط التي مورست على مرشحي المعارضة وإجبارهم على الانسحاب التدريجي في دائرة بعلبك الهرمل.
مجتمع الميم-ع وتجريم خارج الدستور
وذّكر مخايل بالاعتداءات على الحريات المدنية والسياسية التي يندرج تحتها "ما شهدناه من حملة كراهية ضد مجتمع الميم-ع التي اتخذت منحىً رسمياً من خلال قرار وزير الداخلية بسام المولوي بتاريخ 24 حزيران 2022 الذي وصف نشاط أفراد مدنيين لديهم حماية دستورية بأنهم يروّجون "للشذوذ الجنسي"، وهو مصطلح خارج النصوص الدستور وكأنه بهذا القرار خلق نوعاً من الجرائم الجديدة. ومن الانتهاكات المدرجة أيضاً منع التجمّعات المرتبطة بمجتمع الميم-ع".
انتهاك حرية التجمع
استهداف مجتمع الميم-ع، صنفته الباحثة في الشؤون اللبنانية في منظمة العفو الدولية سحر مندور في خانة انتهاك حرية التجمع. وأشارت إلى التزايد في حدة الخطابات والممارسة المعادية.
وقارنت بين السنوات الماضية وهذا العام، حين كانت وزارة الداخلية تتذرع بعدم القدرة على حماية أي تجمّع علني لهم. لكن في عام 2022 تبنى وزير الداخلية بسام المولوي خطاب الجماعات المتشددة ورغم الطعن المقدّم من قبل المفكرة القانونية وجمعية حلم في قراره والقبول القضائي لهذا الطعن أصرّ الوزير المعني على موقفه وتصرّف خارج حكم القضاء وأمر بإلغاء تجمّع في محلة الأشرفية في بيروت، تحت عنوان مكافحة "الشذوذ".
قوانين القدح والذم سيف مصلت ضد حرية التعبير
وتصف مندور "قانون القدح والذم" بأنه سيف مصلت ضد حرية الرأي والتعبير، ما دام استخدامه لحماية النافذين في الدولة.
ولكنها لا تربط تدني عدد الاستدعاءات هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة بانخفاض عدد الانتهاكات. وترى أنه في الأعوام الماضية كانت حركة الشارع والزخم ترافقها حركة على منصات التواصل الاجتماعي واتصال دائم مع المنظمات الحقوقية.
المعايير الدولية والمواثيق والمعاهدات التي وقعها لبنان تقضي بأن تحمي هذه القوانين الفئات المستضعفة، وعلى العاملين في سدة السلطة والمسؤولية أن يتحلوا بدرجة تحمّل عالية بما فيها الشتم والسب.
ولكن بسبب القاعدة القمعية المستمرة تحوّلت هذه القوانين إلى سيف مصلت على مستوى حرية التعبير وتخالف بذلك كل المعايير التي ترعى الحريات العامة.
حملات تحريض ضد اللاجئين
ينضوي اللاجئون في خانة الفئات المستضعفة. وقد تعرضوا في عام 2022 لحملة ممنهجة من التحريض والعنف حيث عمد بعض المدنيين إلى حرق خيامهم نتيجة لذلك، وفق منظمة العفو الدولية.
تشير المنظمة إلى "خطابات الكراهية التي صدرت عن رؤساء ووزراء في الدولة اللبنانية حمّلوا فيها اللاجئين مسؤولية الأزمة وحضوا خلالها على العنف ضدهم دون أي محاسبة رغم ما نتج عنها من انتهاكات الفئات المستضعفة".
التشهير بالفئات المستضعفة كاللاجئين والعاملات في المنازل وذوي البشرات السوداء، والمثليين، تعدّ من الانتهاكات ما دامت القوانين تحمي القويّ وتستبيح الضعيف.
مرفأ بيروت وإفلات من العقاب مستمر
تتحدّث مندور عن تطوّر فادح في قضية انفجار مرفأ بيروت، وترى في انتخاب نواب مستدعين للتحقيق في لجنة الإدارة والعدل تطوّراً هو تحجيم لأي كلام عن وصول قريب للعدالة. وأشارت إلى تعطيل التحقيق بين الطعون والإضرابات.
إهمال قانون التعذيب رغم اقراره
شكّلت قضية الموقوف السوري بشار عبد السعود الذي قضى تحت التعذيب على أيدي جهاز أمن الدولة انتهاكاً فاضحاً لقانون التعذيب في لبنان.
فالقانون رقم 65/2 الذي أقرّه مجلس النواب اللبناني في أيلول 2017 والذي يجرّم التعذيب، ما زال مهملاً لا بل منتهكاً في أروقة التحقيق لدى الأجهزة الأمنية حيث يتعرض الموقوفون للعنف والتعذيب أثناء التحقيق معهم.
وتشير سحر مندور إلى إهمال تام لقانون التعذيب وممانعة لتطبيقه، حيث وثّقت منظمات حقوقية في لبنان تقاعساً متكرراً للأجهزة الأمنية والقضاء عن إنفاذ قانون معاقبة التعذيب ومواد قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تهدف إلى حماية حقوق المحتجزين، كان آخر الانتهاكات فيها وفاة الموقوف السوري بشارعبد السعود أثناء التحقيق معه.
في عام 2022، لائحة الانتهاكات لا تنحصر في ما ذُكر إعلاه، فالأبرز فيها هو انتهاك مبدأ الإنسانية وحقوق المواطن في العيش، في ربطة الخبز، التعليم، الصحة، النقل المشترك، التظاهر والتجمع، الانتخاب والاقتراع، الزواج وخيار المعتقد، العيش الحر، التنقل الآمن، وبناء دولة القانون والمؤسسات بلا عصابات وميليشيات، يمكن تلخيص ذلك بحق المواطن في وطن آمن صالح لعيش كريم. هذا ما فقده اللبناني عام 2022.