الدكتور جورج شبلي
ربّما حانَ الوقتُ للتّذكيرِ بوجوبِ وجودِ دولةٍ عندَنا، والناسُ، في غالبِهم، توّاقون الى ذلك. ليسَ جديداً القولُ بأنّ دولتَنا كانت، وعلى مدى عقودٍ طويلة، دولةً نظريّةً على مستوى السّلطةِ، وفَرضِ النّظام، ومفهومِ القانون، وتطبيقِ معادلةِ الحقوقِ والواجبات... فهي كانت هيكلاً مُتَخَلخِلاً مُعرَّضاً، في كلِّ لحظةٍ، للإنهيارِ على مَنْ فيه، لولا النيّةُ الخارجيةُ، عربيّةً أو أجنبيّةً، في الإبقاءِ على لبنانَ، ربّما لتأمينِ مصالِح، ربّما لحمايتِهِ مركزاً للمخابراتِ الدوليّةِ في الشّرقِ الأوسط، ربّما لاتّخاذِهِ نموذجاً للعيشِ المُشتَرَك، وإِنْ بين مُسَنَّنات. كذلك، لم تكنْ صدمةً ما آلَت إليهِ الأحوالُ، منذُ قريبِ الوقتِ وحتى اليوم، من هَدمٍ مُمَنهَجٍ لأقانيمِ الكيانِ، شعباً وأرضاً، ودولةً وهي تعني الهيبةَ والحُضورَ والنّظام، لتسودَ الفوضى، وتفشلَ السلطة، وتتحكّمَ الهمجيّةُ في مفاصلِ القرار. إنّ ذلك كلَّهُ ليس سوى دراما وطنيّةٍ، أو نقلةٍ الى عصرِ القبائل.
ما نعاينُهُ، باستمرار، في حلقاتِ السّاسةِ الملهوفينَ الى غَزوِ الحكم، وما بعدَه، هو نَعيٌ صريحٌ لمفهومِ الدولة. فالمسؤوليّةُ الوطنيّةُ تَمَّ شَطبُها من قاموسِهم، والبلدُ، في إخلالِهم واجباتِهم، كَبشُ مِحرقة، والناسُ أرقامٌ تُكتَبُ وتُمحى تِبعاً للمصلحةِ، والحاجة، لِذا، أصبحَ للوطنِ غيرُ طَعم. لم يعدْ في جدولِ أعمالِ مهووسي السّلطة، إلّا التسلّط، لمتابعةِ نَهبِ ما تبقّى من جيفةِ الدولة، فما من فَرقٍ بينهم وبين عصاباتِ المافيا، انقضاضاً على مقدّراتِ الجمهوريّة، واختلاساً، وقَمعاً، وسمسراتٍ، وخيانةً، ليضعوا في عَينِ يوضاس حصرمة.
النّاسُ، عندَنا، وُلِدوا والكرامةُ تَشَكُّلَت في جُبلةِ كلٍّ منهم، واكتسبوا معاني الكبرياءِ والشّرفِ والإعتزازِ من تربيتِهم، ومحيطِهم، وعِشرتِهم، وتبقى هذه المواصفاتُ راسخةً في كيانِهم، قيمةً مجرَّدةً حتى المَمات. لكنّ النّاسَ سُطِّحَت رقابُهم تحتَ شِفارِ الجوعِ، والفقرِ، واليأسِ، والقهر، عندما انتقلَ حقُّ التصرّفِ بحياتِهم من شرعيّةِ الدولةِ الى لاشرعيّةِ العصاباتِ التي تغلغلَ شُذّاذُها في مفاصلِ السلطةِ المترهِّلة، واسترسلوا في نَشلِ الحكمِ المُتآكِل، ما أتى على جوهرِ النّظام، وشَلَّ بُنيةَ الوطنِ، وسحقَ رجاءَ الناس، وأرغمَ حقَّهم على التّراجع.
إنّ استعمارَ الدّولةِ تَمَّ بتخطيطٍ مُحكَمٍ، لم يكنِ المقصودُ منه هَزَّ صورةِ المؤسّسات، فَحَسب، بِقَدرِ ما استبطنَ تمريرَ استراتيجيّةٍ تدميريّةٍ عُمِلَ على تمويهِ أهدافِها الحقيقية، لكنّها ما لَبِثَت أن فُضِحَت، وبانَ شكلُها انتفاضةً عنصريّةً مُستَوردةً، ترمي الى تقويضِ أركانِ الدولة، واختراقِ تركيبتِها، ما يحوِّلُها جثّةً متكلِّسةً جاهزةً لإعادةِ تدويرِها، ولكن، بتركيبةٍ مختلفةٍ هجينة.
إذا عُدنا الى ماهيّةِ الدولةِ كما وُثِّقَت عالميّاً، وكما دبَّجَتها وثائقُ الأممِ المتّحدة، نرى أنّ الدولةَ هي مجموعةٌ من الأجهزةِ المُكَلَّفةِ تدبيرَ الشأنِ العامِ للمجتمع، وإقامةَ كيانٍ ذي سيادة، وتأمينَ الحريّةِ للأفراد، وضمانَ حقِّهم الطبيعيّ في الوجود... ويعتبرُ القاموسُ السياسيُّ الدّوليُّ أنّ الدولةَ هي الشخصيةُ الحقوقيةُ التي تفرضُ سيادتَها على مساحةِ الوطن، وتنبثقُ عنها السّلطاتُ التي تديرُ شؤونَ مؤسّساتِها، وهي الضّامنةُ لحقوقِ شعبِها. إنّ هذا المفهومَ الواضحَ لماهيّةِ الدولة، لا يمكنُ إلّا اعتبارُهُ النّاظِمَ الأساسيَّ للتّشكيلِ الإجتماعيّ، والجهةَ المؤتمَنةَ على السياسةِ التي تُضفي على حياةِ الجماعةِ نوعاً من الإستقرارِ والأمانِ بامتلاكِ أحاديّةِ القرارِ والسّلطة، وتجسيداً للخيرِ العامِ وللمصالحِ المشتركةِ للمجتمع.
بناءً عليه، هل نستطيعُ، اليوم، أن ندّعي بأنّ في بلدِنا مرجعيّةً سياسيّةً قائمةً بذاتِها، مسؤولةً عن ضَبطِ أمورِ النّاس، واحتكارِ القرارِ الوطنيّ، وهي تعلو فوقَ ما يوجدُ على أرضِها من تنظيماتٍ، وجماعاتٍ، وتشكِّلُ الضّمانَ الأوحدَ للحريّةِ والحقوق ؟ كلا... فهناكَ أزمةٌ حادّةٌ تتمثَّلُ في تخريبِ الدولة، وإضعافِ مقوّماتِها، وإفراغِها من مضمونِها المؤسّساتيّ، وهذه الأزمةُ يُنتجُها أمرٌ واقعٌ يعملُ كدولة، ويغرزُ مزيداً من التشظّي في جسمِ الوطن، بخطّةٍ تفكيكيّةٍ تسعى الى الإنتقالِ بالبلادِ من صيغتِها الفريدة، وديمقراطيّتِها الفذَّة، الى نوعٍ من النِّيوفاشيّةِ البائدة.
لسنا ندّعي بأنّ وطنَنا تَنعَّمَ بدولةٍ قامَت بمسؤوليّاتِها لتركيزِ مبادئ الحريّةِ والعدالةِ والحقوق، ولا يجدرُ بنا التَطَرُّفُ للمَضِيِّ الى توصيفِ الدولةِ، في لبنان، بأنّها كانت مجرَّدَ خُرافةٍ باءَت كلُّ مؤشّراتِها بالفشل. إنّ الدولةَ، عندَنا، اقترنَ بها شيطان، عاشرَها بمزاجيّةٍ نَجِسَةٍ، فأنجبَت أرواحاً شرّيرةً وطَّنَت فيها الأعمالَ الخبيثة، ونهجَت سلوكاً عَبَثيّاً أَنتجَ فوضى، ومارسَ الهَدمَ النَّمَطيَّ لحضورِ الدولة، كانتِ الكوارثُ أدنى نتائجه.
إنّ كُوَّةَ العبورِ الى دولةِ الديمقراطيّة، والحقِّ بالعيشِ اللّائق، وحفظِ كرامةِ الإنسان، للخروجِ من عصورِ الظّلامِ التي عمَّقَت هوّةَ القلق، تكمنُ في وَعيِ الناسِ للوضعِ الرّاهن، وهَدمِ جدرانِ الحَذَرِ من المواجهة، والعملِ لاستعادةِ الوطنِ بوتيرةٍ تصاعديّة، متَنَكِّبينَ الموروثَ الضَّخمَ من قِيَمِ تاريخِهم، ومن تَجذُّرِهم في الأرضِ التي كانت شاهداً على سُمُوِّ الفداء. الشّعبُ، مهما قيلَ عنهُ، هو، وحدَه، مَنْ ينتفض، ويقودُ حركةَ استنهاضٍ وطنيّة، ويشكّلُ خاتمةً للحالةِ البائسةِ التي تحوَّلَت يأساً قاتلاً، ويرفعُ عصاه بقدرةٍ مشدودةٍ لا ينجو من سهامِها قريبٌ أو بعيد، فالمصير، أي مشروعُ الوجود، والبقاء، باتَ الأمرَ الأشدَّ حساسيّةً بل خَطَراً. والمطلوبُ هو تكوينُ جدارٍ شائكٍ يصدُّ، ولو بالصّدورِ العارية، المَساسَ بالرّابطِ " الوجوديّ " الإيمانيِّ بامتياز، بالوطنِ والدولة، فالذي يتراخى هو كَمَنْ يرتكبُ بحقِّ لبنانَ، وبحقِّ نفسِه، خطيئةً أصليّة.