رؤوف قبيسي
في أزمنة مضت كان للبيوت وقار، وكنا نتعلم من آبائنا وأجدادنا أكثر مما كانوا يتعلمون منا. نأخذ منهم النصيحة، وعصارة تجاربهم في الحياة، وما كان في أذهاننا أن يوماً سيأتي، وتتغير الدنيا إلى الحد الذي تغيرت فيه، ومعها علاقة الآباء والأمهات بالأبناء والأحفاد. تجارب العولمة والتكنولوجيا عمت العالم، وأحدثت تغييراً خطيراً في العادات والثقافات، وصار الآباء أمام أبنائهم كالأميين، خصوصاً حين تواجههم أجهزة معقدة مثل الهاتف الخليوي والحاسوب، وأدوات التحكم عن بعد، وغيرها من الأشياء التي غزت الأسواق، وما زالت تغزوها بما هو جديد، وتفرض على المستهلكين الحاجة لشرائها. ثورة التغيير هذه، جعلتني أقبل على ولديً وأتعلم منهما أكثر مما تعلما مني، وما كان بوسعي أن "أهضم" بعض تلك الأجهزة في بداية دخولها إلى الأسواق مطلع التسعينات لو لم أتلق منهما الدعم. هناك أيضاً "عدوى" نقلاها إليً، هي التعلق بلعبة كرة القدم، وزادت مضاعفاتها إلى حد أن كنت في الأسابيع الأخيرة اتسمًر أمام الشاشات، لمشاهدة مباريات كأس العالم.
من كُتب جبران خليل جبران، "دمعة وابتسامة"، والدموع نفسها أنواع، منها ما هو للأفراح، ومنها ما هو للأحزان، وقد ظهرت هذه الأنواع من الدموع خلال المباريات. ولا شك في أن الكثيرين كسبوا المال الوفير من المراهنات التي شارك فيها الملايين، وأول الكاسبين بالطبع، كانوا أعضاء الفرق المنتصرة، ما يذكًرنا بالكاتب المصري الراحل توفيق الحكيم. ويقال إن الحكيم قرأ ذات مرة، أن أحد لاعبي فريق الكرة المصري، حقق من الثروة في مباراة واحدة، أكثر مما حقق الحكيم من شق قلمه، ما دفعه إلى القول:" كنا في عصر القلم فصرنا في عصر القدم"! ولو أن الحكيم الذي كان مشهوراً بالبخل والتقتير، عاش إلى اليوم، ورأى بأم العين كيف تهبط الثروات على اللاعبين والمراهنين، هبوط أوراق الخريف على الأرض، لقال قولاً آخر أشد إيلاماً.
العالم كله يهتم بالكرة، والاهتمام بها يزداد، خصوصا بين شعوب اميركا اللاتينية. وكثيرا ما أبكت هذه الرياضة الشعوب، خصوصا حين تكون كأس العالم، وهي لم تعف حتى الإنكليز الباردي المزاج، الذين نادراً ما يذرفون الدموع، لكنهم ذرفوها بعد خسارة فريق بلدهم أمام فريق فرنسا في مساء التاسع من الشهر الجاري، كيف لا وهي لعبة اخترعوها، ووضعوا قوانينها وقواعدها، وجعلوها الرياضة الأشهر في التاريخ. كذلك لم تعف الكرة الشعب البرازيلي بعد خسارة فريق بلدهم أمام الفريق الكرواتي. على ذكر البرازيل، كانت هذه البلاد مهجري الأول الذي أمضيت فيه سنوات، بعدها تغربت في دول كثيرة، لكني لم أر شعباً يعشق لعبة كرة القدم مثل الشعب البرازيلي. بعض شعوب الكرة الأرضية لها أقوال مختلفة في كرة القدم. الإنكليز على سبيل المثل، يبالغون في تقدير عوامل الحظ والمصادفة في لعبتها فيقولون، ليس المهم أن تربح أو تخسر، المهم كيف تلعب، في حين أن المسألة عند البرازيليين تصبح معكوسة، فيقولون: ليس المهم كيف تلعب، المهم أن تسجل الهدف!
منذ الستينات لمع اسم البرازيل، وصار مقترناً بكرة القدم، وصار البرازيليون يعرفون كل شيء عن لاعبي فرق بلادهم، الذين تحولوا إلى نجوم، حتى أنهم أطلقوا على اللاعب المشهور بيليه لقب "راي" أي الملك. وقيل إن بيليه كان ذات مرة يتناول العشاء في أحد المطاعم، وعندما هم بالخروج، هجمت عصابة من المعجبين على المطعم وسرقوا الكرسي التي كان يجلس عليها وفروا هاربين. وليس ذلك بمستغرب، في بلد لا يزال الناس فيه ينظرون إلى لاعبي الكرة نظرة فيها شيء من القداسة. ومن الحكايات التي تروى عن شغف البرازيليين برياضة كرة القدم، أن سائحاً ً أجنبياً كان في يوم من أيام الصيف يتمشى في حديقة في وسط مدينة سان باولو، فطلب من ماسح احذية أن يصبغ له حذاءه، وابتهلها فرصة ليتحدث معه في كرة القدم. في كل مرة كان هذا السائح يسأل العامل البرازيلي عن لاعب كرة من بلاده، كان هذا الأخير يقص عليه كل ما يعرفه عن اللاعب: اسم أبيه واسم أمه، مكان ولادته وتاريخ ميلاده، اسم زوجته أو عشيقته، وموقع ولادته من الأبراج، ولم يترك شاردة أو واردة يعرفها عن هذا اللاعب أو ذاك إلا وذكرها. أراد السائح بعد حين، أن ينتقل من الحديث في الرياضة إلى الحديث في السياسة فسأل البرازيلي رأيه في جوان فيغيردو، وكان يومها رئيس جمهورية البرازيل. بُغت ماسح الأحذية المسكين، وبدأ يفكر، فيما بدت على وجهه ملامح من خانته الذاكرة، ثم قال لصاحب الحذاء: قل لي بالله عليك يا سنيور، هل تعرف في أي فريق يلعب هذا اللاعب الذي اسمه جوان فيغيريدو؟
منذ مطلع السبعينات، وفي كل مرة كان تقام فيها مباريات كأس العالم كنت أجد نفسي حائراً في ولائي، فقد عشت في البرازيل وفي إنكلترا، ولهذين البلدين أفضال كثيرة عليً لا أنساها. فالبرازيل كما ذكرت، كانت مهجري الأول، وكان لي فيها أخ أكبر، رحل عن هذه الدنيا، ولا يزال لي فيها اقارب وأحبة. وفيها العدد الأكبر من المهاجرين اللبنانيين في العالم، وفيها عاش ودفن معظم شعراء "العصبة الأندلسية"، وبينها وبين لبنان وسوريا علاقة روحية لا يعرفها إلا من عاش في ذلك البلد الأميركي الجنوبي. أما إنكلترا فهي بالنسبة إليً مثل وطن ثان، فيها درست وعملت سنوات طويلة، وفيها تعرفت إلى المرأة التي صارت زوجتي. وفيها ولد ولداي، وهما يشجعان بالطبع، فريق البلد الذي ينتميان إليه بالولادة والثقافة، ويريدانه أن يفوز بالكأس العالمية. غير أن مواقفي في المباراة الأخيرة قد تغيرت، وتخليت عن ولائي للبرازيل وإنكلترا لصالح أي دولة عربية، وفرحت حين فاز الفريق السعودي على فريقي الأرجنتين، لا لشيء، إلا لأن أي فوز يحرزه بلد عربي على الساحة الدولية، كما حصل بعد فوز فريق المغرب على فريقي البرتغال وبلجيكا، يزيل حتماً بعض ما لحق بصورة العرب في العالم من أوضار السياسيين وجرائم السلفيين.
بقيت هناك ملاحظتان، الأولى تتصل بخلطة الكرة بالدين، والمؤسف أن هناك من كان يرفع شعارات يصور فيها فوز الفريق المغربي على أنه سيكون نصراً للإسلام، ويريد أن يقحم دينه، ومعتقده بكرة تقاذفها الأرجل! أمر يدعو للغرابة حقاً، لا بل للاشمئزاز، ولو أن من قاموا بذلك كانوا قلائل، لكن لا بد أنهم يعبًرون عن شريحة واسعة من الناس! الملاحظة الثانية تتصل بعلاقة كرة القدم بالسياسة. فكثيراً ما سمعنا بأن بعض حكومات الدول الفقيرة، ودول العالم الثالث، تشجع شعوبها على رياضة كرة القدم، لتصرفها عن حاجاتها اليومية المشروعة. لا أدري كم في هذا الكلام من الحقيقة، لكن المؤكد، أن هذه "المؤامرة" لو وجدت، لا تنطبق حتماً على السعودية، ولا على قطر، التي ينعم شعبها في بحبوحة قل نظيرها بين شعوب الأرض، علماً بأن هذه الدولة الخليجية الصغيرة، قد قدمت للعالم صورة مغايرة عن المنطقة العربية، وقامت بمبادرة توحي بأن العرب يريدون أن يشاركوا البشرية عطاءاتها، على أمل أن تتوسع المشاركة لتشمل حقولاً أخرى غير الرياضة، كالعلوم والموسيقى والفنون، ذلك يدنينا من أصالتنا في أقل تقدير، ومن الحضارة الجديدة بمظاهرها المختلفة، ويبقى أفضل بما لا يقاس، من صور قاتمة حزينة أوجدتها على تعاقب العقود، تدخلات أجنبية سافرة، ومغامرات سياسية قاتلة، وعصبيات دينية خطرة، استغلها خصوم العرب إلى أبعد الحدود، ودارت، ولا تزال تدور في عقول بعض الشباب العربي الناهض، دوران الحمًى في رأس المريض، فتدفعه إلى نحر الذات، وقتل العباد وخراب البلاد!