محمود حدّاد*
تابعت باهتمام المناقشة التي جرت بين الأستاذين جهاد الزين و أمين ألبرت الرّيحاني في "قضايا النهار" (10 و19 كانون الثاني 2023) حول كتاب " الترجمات العربية للكتاب المقدس" الذي أصدره الاستاذ ألرّيحاني أخيراُ. ولقد قرأت الكتاب موضوع المناقشة وأرغب في المساهمة بملاحظات قد لا يكون لها علاقة لها بالكتاب ومؤلفه،لكنها تتعلق بالنقاش نفسه وهي ملاحظات اضافية قد تغني البحث عن موضوع اللغة العربية بشكلها المعاصر.
يقول جهاد الزين أنه يعارض أمين ألبرت الريحاني لكتابته [مبالغاً]:
"حمل العهد الجديد بلغته العربية بذور أدب عربي جديد وبذور شعر عربي جديد، بل بذور نهضة فكرية عربية تصحِّح المسار وتشير إلى أن النهضة العربية في لبنان مع القرن السابع عشر ولم تنتظر نابوليون وجحافله الغازية في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر ، الأمر المتداوَل زوراً وبهتانا".
وهو يضيف إلى ذلك:
"أظن هنا ذهب الكاتب بعيدا، بعيدا جدا في استنتاجه بما لا يتيحه لا البحث نفسه ولا مادته. على الأقل نحن هنا أمام مبالغة كبيرة تحتاج الى بحث بل أبحاث. فالتخفيف من قيمة غزو نابوليون على حركة الحداثة العربية خصوصا حين يستخدم تعبير "زورا وبهتانا" يلغي إرثا كاملا في حقول معرفية وفكرية مختلفة. ربما من الأدق القول أن بعض عوامل النهضة كانت تحصل في جبل لبنان أو بتأثير لبنانيين في اوروبا ولكن غزو نابوليون كانت أهميته كما يعلم طبعا الكاتب في الصدمة الشاملة والعميقة التي أحدثها بينما البذور الترجمائية اللبنانية كانت تُزرع بهدوء، لاشك، ولكن الفارق لا يُقارَن في الحجم لصالح الصدمة النابوليونية المتعددة المستويات. ناهيك طبعا، وهذا رأيي الخاص،أن حركة رصد حقول النهضة العربية أَهملت طويلا ما كان يجري من تفاعلات تحديثية على مدى القرن التاسع عشر القرن العشرين في اسطنبول مركز الأمبراطورية العثمانية".
أما الرّيحاني فيجيب:
"...لا ألوم الأستاذ الزين على هذا الاعتراض لأنني ربما لم أتوسّع فيه الكفاية في كتابي حين أشرت إلى أن أوّل مطبعة عربية في الشرق كانت مطبعة قزحيا في لبنان منذ 1610 لا مطبعة نابليون في مصر منذ 1798. الفارق التاريخي يصل إلى نحو مئتَي سنة. لكن الأهم من ذلك هو الفارق الفكري والحضاري. فهدف المطبعة العربيّة النابوليونية كان هدَفًا سياسيًّا وعسكريًّا وكولونياليًّا، في حين أن هدف المطبعة العربيّة "القزحيَّوِيّة" كان هدَفًا لاهوتيًّا ولغويًّا وأدبيًّا وفلسفيًّا حضاريًّا. أكثر من ذلك، فالمصادر تذكر أن مطبعة نابليون عادت من حيث أتت بعد ثلاث سنوات من مجيئِها إلى مصر، في حين أن مطبعة قزحيّا بقيت في لبنان منذ تأسيسها حتى اليوم. فكيف يمكن لمطبعة ذات أهداف سياسيّة كولونياليّة، لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات، أن تؤسّس للنهضة العربية في حين أنّ مطبعة أخرى، نشأت منذ أربعمئة سنة، وتبعتها مطابع، وقامت جميعُها بنشر الكتب اللاهوتيّة والفقهيّة واللغوية العربيّة والكتب الأدبيّة والفلسفيّة، لا نعتبرها هي المؤسِّسة "للعهد الجديد" للغة العربيّة وللنهضة العربيّة في لبنان والعالم العربي؟ هي "عهدٌ جديد" لقديم اللغة العربيّة، وعَودٌ إلى أصولها، كما هي "عهدٌ جديد" لحداثة اللغة العربيّة وحداثة شعرها وأدبها المعاصرَين".
سوء تفاهم؟
أعتقد أن هناك سوء فهم أو سوء تفاهم بين الطرفين. فجهاد الزين لم يتحدث عن مساهمة بونابرت (لم يكن قد أصبح نابليون إلا في 1802) ومطبعته التي اهتمت، بصورة أساسية، بشؤون غزوته الدعائية والأدارية، في النهضة،بل عن "الصدمة الشاملة والعميقة" التي أحدثها غزو بونابرت لمصر في 1798. فارق كبير بين المسألتين لأن الغزوة الفرنسية أيقظت العرب والشرق على مدى التقدم الأوروبي والتراجع النسبي العربي والإسلامي والشرقي سياسياُ وعسكرياً وثقافياً وبدأنا نسأل السؤال المتكرر:" لماذا تقدموا...ولماذا تأخرنا؟" أما المطبعة "القزحيَّوِيّة" فتخصصت بكتب الدين المسيحي حصراُ ولم يكن لها دورأدبي أو لغوي أوفلسفي أو حضاري بينما تخصصت المطبعة البونابرتية إجمالاً بشؤون الغزوة الفرنسية السياسيًّة والعسكريًّة والكولونياليًّة التي ذكرها الرّيحاني وذكرناها قبلاً. وقد كانت هناك عدة مطابع غير مطبعة دير مار قزحيا طبعت الكتاب المقدس في بلاد الشام (أهمها مطبعة حلب) في القرنين السابع عشر والثامن عشر كما يذكر الرّيحاني في كتابه إلا أن المعول عليه كانت الطبعتان الحديثتان اللتان ظهرتا في القرن التاسع عشر وهما الطبعة البروتستنتية الميّسرة التي عُرفت بطبعة فانديك التي أسهم بها بطرس البستاني وناصيف اليازجي والطبعة الكاثوليكية الراقية التي أسهم فيها إبراهيم اليازجي.
لقد أوفى أمين ألبرت الرّيحاني موضوعه حقه ضمن الاطار الذي وضعه لدراسته وهو ضليع بذلك بالطبع. إلا أنه تحدث عن عامل واحد من عاملين رئيسين اثنين ساهما في النهضة العربية الحديثة واقتصرعلى موضوعه وهوالترجمات الدينية أو ترجمات الكتاب المقدس. لهذا نزيد من خارج النظر إلى كتابه إلى أن الترجمات للمصادر غير الدينية بدأت هي الأخرى، وفي نفس الوقت تقريباً في القرن التاسع عشر، بلعب دورها في النهضة العربية. كان أولها مطبعة بولاق المصرية التي أنشأها محمد علي باشا (الذي وصفه المعلم بطرس البستاني بمأمون القرن التاسع عشر مقارناً نهضة الترجمة في مصر وقتها بنهضة الترجمة التي قامت في بغداد أثناء فترة حكم الخليفة المأمون) والتي اهتمت بترجمة كتب العلوم والحساب والهندسة والعسكرية إضافة إلى طباعة بعض كتب التراث العربي. (وقد أرسلت هذه المطبعة بضع عشرات من هذه الكتب إلى بلاد الشام أثناء الحكم المصري (1831-1840) بناءً على طلب بعض كبراء ومتعلمي تلك الفترة. وكان من بينها: قانون الصناعة،عقرب الساعة، كتاب الحكمة،علم الحساب،تاريخ أميركا، كتاب المعاون، التشريح البشري،كليلة ودمنة وغيرها). وحلت ثانياً المطبعة الأميركانية التي انتقلت من مالطة إلى بيروت واهتمت بطباعة الترجمة البروتستنتية من الكتاب المقدس إضافة إلى كتب التعليم العلماني من طب وحساب وفلك وجغرافية وتاريخ التي كانت تحتاجها لتعليم طلابها في الكلية الإنجيلية السورية. ولنا أن نذكر هنا أن جمعية العمدة الأدبية لنشر الكتب العربية" أنشأت في بيروت بداية 1860 وكان من بين أعضائها حسين بيهم،بطرس البستاني،خالد أبو النصر،سليم بسترس،سعيد حمادة،خليل خوري مثلت الوحدة بين هؤلاء الأعضاء من مختلف الطوائف،إلا أنه يبدو أن اندلاع الحرب الأهلية في جبل لبنان بعد أشهر قليلة أوقف أعمال هذه الجمعية.
لا شك، إذن، أن الاتجاه الديني المسيحي قد ساهم في حداثة اللغة العربيّة وحداثة شعرها وأدبها المعاصرَين خاصة عند اللبنانيين كما أثبت ذلك أمين البرت الرّيحاني في نماذج الكتّاب والأدباء التي قدمها في كتابه (شبلي الشميل،فرح أنطون،أمين الرّيحاني، جبران خليل جبران،ميخائيل نعيمة وغيرهم)، إلا أن الاتجاه الديني والعلماني العصري عند المسيحيين والمسلمين معاً أسهم هو أيضاً في عصر النهضة حيث ارتقت العربية إلى مستوى العصر بالترجمة وإعادة اكتشاف الذات من خلال طباعة بعض كتب التراث الأدبي والديني التي كانت مخطوطات يطلع عليها الخاصة حصراً فجعلتها في متناول أفراد المجتمع المتعلمين حيث بدأ التعليم بالتوسع التدريجي. إلا أنه من المؤسف أن اللغة العربية التي كانت تغتني وتتحدث (من حداثة) بالترجمات اليها اصيبت بمرض التغرب فقام الأجانب والوطنيون القائمون على التعليم في البلاد العربية بتفضيل التعليم باحدى اللغات الأجنبية لأسباب اعتقدوها عصرية فبدلاً من محاولة تعريب ما هو غربي جرى غربنة ما هو عربي فانقلب الوضع وصار الطالب العربي غير متمكن من كلتا اللغتين جاهلاً عملياُ بالعربية والأجنبية معاً. ولعله من المناسب هنا أن نثبت دعوة المعلم بطرس البستاني في " نفير سورية" إلى ضرورة تعليم أبناء الوطن
بلغة البلاد أي العربية "لأن ذلك من شأنه أن يفيد اللغة أيضاً ويجعل المتعلمين أكثر نفعاً وغيرة نحو بلادهم ... والذين يدّعون بأنه لا يمكن التمدن تحت اللغة العربية ربما كانوا لا يعرفون مقدار فضل هذه اللغة وقد فاتهم أن تمدنها أقرب واسهل وأفعل من تمدن أبناء العرب تحت لغات أجنبية متنوعة. وإلا يلزمنا الحكم بكل غم وأسف بأنه قدر على سورية أن تكون أيضاً بابل اللغات والعادات والمشارب كما هي بابل إلاديان وإلاجناس والمذاهب".
أما نحن فقد نأسف على ما أسف عليه البستاني بعد غزوة لغات الالكترونيات التي يستخدمها أطفالنا وشبابنا وشاباتنا في تعابيرهم ورسائلهم السريعة والعابهم المثيرة حتى أصبحت الهوة عميقة فعلاً بين الأجيال بسبب ما أٌطلق عليه وسائل التواصل/اللاتواصل الاجتماعي. وقد تكون هذه سنّة التغيير التي لا نستطيع لها تبديلاُ.
*مؤرخ واستاذ جامعي