الدكتورة جوسلين البستاني
إذا أردنا إدراك سبب تراجع الموقف الإيراني حيال الوكالة الدولية للطاقة الذرّية ودعوة مديرها العام رافائيل غروسي لزيارة طهران، يجب أن نتذكّر ان النظام الايراني الذي سعى دائماً إلى كسب الوقت، ما زال في حالة الصدمة التي تلت التظاهرات المناهضة له. بالفعل، لقد وحّدت هذه التظاهرات تقريبًا كل فئات المجتمع، وكانت أضخم بكثير وأطول أمدًا من تلك التي حصلت سابقاً، كما انها طاولت للمرة الأولى مُدناً محافِظة جداً مثل قم ومشهد. غير ان النظام استطاع المحافظة على اتحاده ولم تنشق أي من وحدات قوات الأمن كما حدث خلال الثورة ضدّ الشاه. ومع ذلك، يعلم القادة الإيرانيون أن التظاهرات لم تنتهِ، بل"انخفضت" لأن "المواطنين أكثر حذراً"، "لكنها لم تنته"، خصوصا بعد حصول مئات من حالات التسمّم بالغاز في أكثر من 52 مدرسة للفتيات في جميع أنحاء إيران وذلك منذ نهاية تشرين الثاني الماضي. ما نشهده في شوارع إيران ليس إلا صرخة احتجاج على الحياة في ظل نظام كليبتوقراطي، استبدادي، فاسد في جوهره، أوصل في السنوات الأخيرة الاقتصاد الإيراني الى الانهيار التام. فكان العلاج الوحيد المُعتمد للحدّ من عجز الموازنة الرسمية طباعة العملة التي هي نقيض مكافحة التضخّم، إضافة الى عدم الكفاءة في الاسلوب الذي يُدير به هذا النظام الأيديولوجي الازمة الاقتصادية. فهو عمد الى تطهير كل المثقّفين الذين كان بإمكانهم معالجة المشكلة، واعطى الأولوية للالتزام الأيديولوجي بدل الخبرة التكنوقراطية التي تُعتبر غربيّة، ولا تتوافق مع المجتمع الإسلامي بحسب اعتقاده. لذلك كل من يريد الحصول على منصب ما، عليه الخضوع لتقييم الاختبارات الأيديولوجية لمعرفة مدى توافقه مع القيم المُطبّقة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
من جهة أخرى، بدأ النظام الإيراني يشعر بالغضب الدولي عليه بسبب دعمه لروسيا وتزويدها بالسلاح، وهو امر يُرجّح إطالة الآلام الاقتصادية. لم يكن هذا القرار سهلاً، وحده المرشد الاعلى علي خامنئي باستطاعته توريط بلاده في حرب لا علاقة لها بها، لا بل هي ضدّ المصالح الوطنية الإيرانية. هل كان أمامه خيار الوقوف على الهامش بعد غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا والاحتفاظ بالدعم السياسي لروسيا في الأمم المتحدة؟ ام ان الاتفاق السرّي الذي توصّلت اليه ايران مع الرئيس بوتين في تموز الماضي، لعب دوره في هذا القرار؟ وقد تناول تجاوز مُقرّرات اي اتفاق يحصل في المستقبل بشأن برنامج أسلحة ايران النووية غير المشروع، حيث تعهّدت روسيا إعادة كل اليورانيوم المُخصّب إلى إيران في أسرع وقت ممكن إذا انسحبت الولايات المتحدة لأي سبب من الاتفاق. هنا يجب التذكير بانه وفقاً للمتطلبات الرئيسية للاتفاق النووي المُبرم سنة 2015، طُلب من طهران تخزين اليورانيوم المُخصّب في روسيا. وبالفعل، امتثلت إيران حينذاك، وتمّ شحن اكثر من 11 ألف كيلوغرام من اليورانيوم المُخصّب من إيران نحو روسيا في كانون الاول 2015.
في الحصيلة، تجاوز خامنئي الدعم السياسي لروسيا بتزويده بوتين بالسلاح، وأصبح طرفًا في حرب ضمن أوروبا، علما ان المرة الاخيرة التي اشتركت فيها إيران عسكرياً في أوروبا كان خلال حرب البوسنة. آنذاك أرسل الحرس الثوري قواته إلى جانب الأميركيين الذين كانوا يدعمون البوسنيين في قتال الصرب. يومها لم يُشكّل "الشيطان الأكبر" عقبة. على اي حال، يُترجم قرار الإمام خامنئي الكثير من المخاوف، اهمّها القلق بشأن الاستقرار الداخلي وحقيقة أن النظام الإيراني يواجه أزمة شرعية، وأطول انتفاضة في تاريخ ما بعد الثورة. فلماذا لا يلجأ الى بوتين مُنقذ الأنظمة؟ لقدّ تمكّن الأخير من انقاذ نظام بشّار الأسد من خلال دعمه سياسيًا عام 2011، وعسكريًا عام 2015 ، وأنقذ ألكسندر لوكاشنكو في بيلاروسيا بعد الانتفاضة التي حصلت هناك عقب انتخابات عام 2020، وأنقذ أيضًا نظام كازاخستان في كانون الثاني 2022، اي قبل أن يذهب إلى أوكرانيا بشهر واحد. لذلك، يعتبر النظام الإيراني بوتين الملاذ الأخير لتأمين استمراريته في حال واجه الإطاحة به. ثمة عامل آخر مهمّ وهو بالنسبة الى ايران مساعدة موسكو على الحفاظ على قوتها، خصوصا بعد قيامها بسحب بعض صواريخها المضادة للطائرات من طراز S300 من سوريا، مما شجّع الهجمات الإسرائيلية على مواقع لم تُستهدف سابقاً. كذلك الامر بالنسبة الى اذربيجان وأرمينيا، فالإيرانيون لا يريدون أذربيجان حليفة إسرائيل ان تستفيد من إضعاف روسيا، وقد رأينا كيف ان الأذريين تحدّوا حلفاء إيران في أرمينيا. اما السؤال الذي يطرح نفسه فهو: هل حقاً ايران جادة بشأن ابرام الاتفاق النووي؟ لو كانت كذلك لماذا تُعرّض محادثاتها النووية مع الغرب للخطر من خلال دعم روسيا؟ ألا يُمكن أن يجني النظام الإيراني مليارات الدولارات في حال عمل بجدّية على إنجاح الاتفاق النووي فيُصلح اقتصاده ويُريح شعبه على رغم انه وجد بديلاً في ديبلوماسية الرهائن وخطف المواطنين الأوروبيين بمعدل غير مسبوق والتي تعود عليه بإيرادات لا بأس بها؟ لذلك وبسبب سوء تقدير الامام خامنئي ودعمه لروسيا في أوكرانيا، إتّخذ الأوروبيون موقفًا أكثر مناهضة للنظام الإيراني. لطالما تقدّمت الجغرافيا السياسية على السياسة وليس قضية حقوق الإنسان المُتعلقة بقمع الاحتجاجات.
أخيرًا وبالعودة الى تبدّل موقف ايران المفاجىء من التعامل مع وكالة الطاقة الذرّية، من الواضح انه كان له علاقة باقتراب الاجتماع الربع السنوي لمجلس محافظي تلك الوكالة، اذ من المعلوم ان طهران أظهرت في الماضي اهتمامًا بهذا الاجتماع، وعادة ما تقوم بلفتة من الحوار والتفاعل الديبلوماسي قبل حصوله، أملاً بمنع اصدار قرار ضارّ بها. لذلك أرسلت إشارة في اتجاه المجتمع الدولي وبدت فجأة على استعداد للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرّية من خلال دعوة مديرها العام رافائيل غروسي لزيارة إيران. ولكن في الوقت نفسه، ما زلنا نتذكر جهود النظام الدورية والمنتظمة لتصوير مُفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرّية على أنهم أكثر بقليل من جواسيس للغرب. اما هذه المرة، فينظُر المُتشددون إلى زيارة غروسي على أنها لجمع المعلومات وتسليمها للإسرائيليين، لذلك لا يبدو الأمر كما لو أنهم سيقلبون الصفحة ويبدأون شيئًا جديدًا. إن جمهورية إيران الإسلامية بزعامة الامام خامنئي ليست مُستعدة لإجراء حوار جدّي مع المجتمع الدولي، ناهيك عن الولايات المتحدة، لأن القادة الايرانيين يعتقدون أن أي حوار جدّي سيؤدي في الأساس إلى سقوط الجمهورية الإسلامية. وقد نُشر على موقع الامام خامنئي الالكتروني قوله إن الأميركيين يريدون تنازلاً تلو الآخر. هذا الموقف ليس مُستغرباً، وقد اعتُمد بالنسبة الى مقاربة التظاهرات قبل بضعة أشهر، وما إذا كان ينبغي على النظام تقديم بعض التنازلات للمتظاهرين. بالتالي، من الصعب رؤية اختراق ديبلوماسي بهذا المنطق. إنها الأيديولوجية التي تحتاج إلى التغيير. وبالعودة إلى الاتفاق النووي، فإن الأمر لا يتعلق فقط بعدد أجهزة الطرد المركزي او بمقدار تخصيب اليورانيوم، بل يتعلق بالمواجهة السياسية بين واشنطن وطهران.
الحقيقة الجليّة هي أن إيران التي وجّهت دعوة لزيارة طهران الى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرّية رافائيل غروسي، كانت تسعى فقط الى شراء الوقت. الوقت للوصول إلى مستوى اليورانيوم المُخصب الذي يُستخدم في صنع الأسلحة النووية، الوقت لتلقّي أنظمة دفاع جوي جديدة متطوّرة من روسيا، يقول المسؤولون الإسرائيليون إنها ستُقلّص نافذة هجوم مُحتمل على برنامج طهران النووي. اما في حال واجهت ايران عقوبات دولية جديدة بعد اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، فقد تميل إلى الردّ من خلال تصعيد إجراءاتها، كما فعلت دوماً، إما بتصعيد عملها النووي وإما بزيادة تقييد قدرة مُفتشي الوكالة الذرّية على مراقبة ما تفعله في منشآتها النووية، الامر الذي سيؤدي إلى أزمة حادّة تُضاف الى تلك التي يمُرّ بها العالم.