القس سهيل سعود
جاء في أسطورة قديمة، أن الله أرسل ملاكه إلى الشيطان ليبلغه أنه سوف يجرّده من كل أساليبه الملتوية التي يستخدمها للتغلب على المؤمنين وإخضاعهم وتدميرهم. فتوسّل الشيطان الى الملاك طالباً منه أن يترك له أسلوبا واحدا فقط، قائلا: "دعني أحتفظ باليأس". وإذ ظنّ الملاك أن هذا الطلب بسيط، أبدى موافقته. عندها هتف الشيطان قائلاً: "بحصولي على هذا الطلب ضمنت كل شيء آخر". شبّه الشاعر الإيطالي دانتي، اليأس بالجحيم. دوّن في كتابه "الكوميديا الإلهية"، على باب الجحيم عبارة، "اهجروا الرجاء جميع الداخلين إلى هنا".
تعاني الغالبية الساحقة من اللبنانيين واللبنانيات في هذه الأيام الصعبة، من اليأس والكآبة والإحباط والشعور بالقرف والذلّ، بسبب الضيقات التي فرضتها الأوضاع السياسية المالية والاقتصادية والاجتماعية والانهيارات المتعددة الوجه، التي أوصلنا اليها معظم قادة البلاد الذين فسدوا وأفسدوا وغطّوا الفساد والفاسدين. وصف أحدهم اختباره الشخصي بعدما مرّ في حالة من اليأس، قائلا: "اليأس إختبار تعس يخلّفك منهكا، ومتردّيًا في هوة عميقة قُطِع منها كل رجاء، فتشعر بأنك عالق في فخ ومحكوم عليك بسوء المصير... يا له من اختبار مروّع". عند اليأس، يخسر الانسان دوافعه للبقاء والاستمرار في الحياة. لليأس عوارض نفسية ومرضية، منها: غضب، إضطراب، خوف، إرتفاع في ضغط الدم، وجع رأس، تعب، نوم كثير، وغيرها من العوارض.
لماذا نشعر باليأس في وطننا الحبيب لبنان؟ نشعر باليأس عندما نرى بأمّ أعيننا أنّ أحلامنا التي بنيناها لعيش حياة هانئة مطمئنة في وطننا تتكسّر. نيأس عندما نرى أنّ كل جنى عمرنا قد تبخّر بسبب فقدان عملتنا الوطنية قيمتها، أو بسبب حجزها في المصارف. نيأس عندما نرى أننا لم نعد قادرين على تأمين الحليب لأطفالنا، والأدوية لأمراضنا. نيأس عندما نفقد حقنا في الحصول على الدولار الطالبي لتعليم أولادنا في الخارج، ولا نعود قادرين على تعليمهم حتى في جامعات الداخل لصعوبة تأمين أقساطهم بالدولار. نيأس عندما نرى أن المسؤولين عن تفجير 4 آب الهيروشيمي الكارثي، لم تتمّ محاكماتهم، بسبب إيقاف التحقيقات القضائية. نيأس. ونيأس. ونيأس.
مما لا شكّ فيه أننا جميعا نمرّ في فترات من اليأس المعقول. لم ينجُ من اليأس الموقت حتى أعظم الرسل والقديسين. يخبرنا الرسول بولس في رسالته الثانية الى كنيسة كورنثوس، عن ضيقات عظيمة واجهته عندما كان في آسيا، أوصلته الى حالة اليأس الشديد، حتى يئس من الحياة نفسها. قال للكورنثيين: "فإننا لا نريد أن تجهلوا أيها الإخوة، من جهة ضيقتنا التي أصابتنا في آسيا، أننا تثقّلنا جدا فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة أيضا" (2 كورنثوس 1: 8). اطلق الرسول بولس على حالة اليأس المتقدمة، تسمية "حالة الموت". قال: "الذي نجّانا من موت مثل هذا. وهو ينجي، الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي أيضًا في ما بعد" (2 كور1: 10). لكن بولس إختبر أنّ الإتكال على الله أخرجه من اليأس. لهذا نصح الكورنثيين بالإلتجاء الى الله، عندما يعانون من اليأس والضيقات. قال: "لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون متكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يقيم الأموات" (2 كورنثوس 1: 9). آمن بولس أنّ الرجاء الذي ينبع من الله هو العلاج لليأس. قال في رسالته إلى كنيسة رومية: "لأننا بالرجاء خلصنا، لكن الرجاء المنظور ليس رجاء، لأن ما ينظره أحد، كيف يرجوه أيضا؟ ولكن ان كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر" (رومية 8: 24 و25). إعتقد بولس أنّ الرجاء لا يأتي مما هو منظور. وهذا صحيح جدا في حالتنا المأسوية في وطننا الجريح لبنان. هل هذا الفساد والإهمال والسرقات والانهيارات الكثيرة تجعلنا نشعر بالرجاء؟ طبعا لا. يقول الرسول بولس إن من طبيعة الرجاء أنه لا يستند الى الحاضر المنظور والمعيون، بل يستند الى المستقبل غير المرئي وغير المعيون. قال الفيلسوف اليوناني أفلاطون: "ما لا يُرى هو الحقيقة الوحيدة بل الأساس والأصل لكل الحقائق التي نراها".
إنّ ركيزة الرجاء المسيحي، ليست فقط قوة التفكير الايجابي، أي رؤية الجزء الملآن من كوب الماء، الأمر الذي هو ضروري جدا في هذه الأيام، لا سيما أننا نعيش في وطن جميل، والسياحة مزدهرة في معظم مناطقنا اللبنانية. لكن ركيزة الرجاء، هو الإيمان بالله القادر على أن يغيّر حاضر وطننا ويمنحنا مستقبلا أفضل. عرّف الفيلسوف اليوناني أرسطو، الرجاءَ على أنه "حلمُ اليقظة". نعم الرجاء حلمٌ، لكن ليس حلم النائمين اللاواعين، بل حلم المستيقظين الذين يجرؤون على الحلم وهم مدركون أن حلمهم سيتحقق في المستقبل. فالذين لا يحلمون بمستقبل أفضل لن ينالوه. يشهد التاريخ أنّ كل التغييرات الأساسية التي حدثت في العالم كان وراءها أناس إستطاعوا أن يحلموا بالتغيير. يتضمّن الرجاء قوة فاعلة دافعة محرّكة خلاّقة، تدفعنا للمشاركة في التغيير، كل في مجاله وبحسب طاقته.
يذكر اللاهوتي الألماني المعاصر، يورغن مولتمان، "أن هناك علاقة لا تنفصل بين الإيمان والرجاء. الإيمان يربط الإنسان بالله في الحاضر، أما الرجاء فهو يطلق الإنسان نحو المستقبل. الإيمان يضع الإنسان على الطريق نحو الله، والرجاء يحفظ الإنسان في الطريق. الرجاء يمنح الإنسان المؤمن البصيرة الروحية لكي يرى ما لا يستطيع ان يراه بالعين المجردة. الرجاء لا يستسلم للحاضر المرئي بل يتمرّد على الحاضر ويشقّ طريقه وسط صعوبات الحاضر، ليتطلّع إلى مستقبل أفضل تحت رعاية الله. الرجاء لا يقبل بالأمور كما هي، بل يراها: تتغير، تتحرك، تتطور. الرجاء يرى إمكانات جديدة للتغيير". لهذا، فإنه إستنادا الى هذين المبدأين الأساسيين: الأول، الإيمان بالله القادر على كل شيء. والثاني، الرجاء بالتغيير والمشاركة في
بناء وطن أفضل، اليأس ممنوع.