مع تنصيب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يوم الثلثاء، لولاية ثالثة، في مقر البرلمان بالعاصمة الإدارية الجديدة، اشتعل الجدل حول مصير مدينة القاهرة، التي تعدّ العاصمة التاريخية لمصر؛ إذ يتراكم تاريخها في طبقات، منذ تأسيسها في عهد الفاطميين عام 969 ميلادياً.
ويتخوف كثير من المصريين من انطفاء وهج العاصمة التاريخية للبلاد ووقوعها في براثن الإهمال، في أعقاب انتقال مقار الحكومة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، التي تبعد عن القاهرة مسافة 60 كيلومتراً.
في المقابل، دفع آخرون ببطلان هذه الحجة من جهة أن العاصمة الإدارية الجديدة تتبع محافظة القاهرة إدارياً، وأنّ انتقال مؤسسات الحكم إليها لا يمثل تهديداً للعاصمة القديمة.
كما أُثيرت تساؤلات بشأن مصير المباني التي ستتركها الحكومة، لا سيّما التراثية منها. وبالتوازي مع هذا كله، ظهر مقترح مشروع قانون في البرلمان المصري يقضي بتحويل العاصمة الإدارية إلى ولاية تتبع محافظة القاهرة إدارياً.
مقترح الولاية
يقول رئيس لجنة الإسكان في البرلمان المصري الدكتور محمد عطية الفيومي لـ"النهار العربي" إنّ "العاصمة الإدارية الجديدة أصبحت داخل الحيّز العمراني لمحافظة القاهرة، بعد توسيعه أخيراً؛ حتى لا يخالف انتقال مؤسسات الحكم للعاصمة الإدارية نصوص الدستور المصري".
تنصّ المادة 114 من الدستور المصري على أنّ "مقر مجلس النواب مدينة القاهرة، ويجوز له في الظروف الاستثنائية عقد جلساته في مكان آخر، بناءً على طلب رئيس الجمهورية، أو ثلث أعضاء المجلس، واجتماع المجلس على خلاف ذلك، وما يصدر عنه من قرارات، باطل".
يشار إلى أن مجلس الوزراء المصري برئاسة مصطفى مدبولي، قد وافق في حزيران (يونيو) عام 2022، على مشروع قرار رئيس الجمهورية بشأن تعديل الحدّ الشرقي لمحافظة القاهرة، بحيث تضمّ مساحات أراضي العاصمة الإدارية الجديدة وامتدادها إلى محافظة القاهرة، التزاماً بالنصّ الدستوري.
رغم تخطي العقبة الدستورية، يشير الفيومي إلى أنّ ثمّة مشكلة إدارية وتنظيمية تواجه العاصمة الإدارية الجديدة في وضعها الحالي، إذ إنّ بقاءها ضمن أحياء محافظة القاهرة يعيق العمل الإداري داخلها، فحتى يتسنى إدارتها يجب تقسيم المدينة الجديدة إلى وحدات إدارية صغيرة، تتمثل في عدد من الأحياء، وخصوصاً أنّ مساحتها كبيرة للغاية، حوالي 700 كيلومتر مربع، أي 170 ألف فدان، وهي أكبر من مساحة سنغافورة.
ولتجاوز هذه الإشكالية أعدّ الفيومي مشروع قانون جديد للإدارة المحلية يمنح العاصمة الإدارية صفة "الولاية"، وهي وحدة إدارية أصغر من المحافظة وأكبر من الحيّ، لذا يمكن تقسيمها إلى عدد من الأحياء، وتظل تابعة في نهاية المطاف لمحافظة القاهرة.
ويقول البرلماني المصري إنّه اقترح مشروع قانون الإدارة المحلية الجديد منذ الدورة البرلمانية الفائتة، قبل ثماني سنوات، لكنه لم يخرج للنور حتى الآن، لافتاً إلى أن مشروع القانون موجود حالياً في لجنة الإدارة المحلية في البرلمان، وينتظر المناقشة.
وفي مشروع القانون المقترح، خصص الفيومي باباً منفصلاً لمحافظة القاهرة، يتضمن إنشاء مجلس أمناء خاص للعاصمة الإدارية الجديدة له صلاحيات واسعة، على غرار المجالس المحلية في المحافظات الأخرى، ويمنح هذا الباب أيضاً صلاحيات خاصة لمحافظ القاهرة، تمكنه من إدارة تعقيدات العاصمة التي يقع في نطاقها كل مؤسسات الحكم.
ويؤكّد الفيومي الذي يعدّ أيضاً أحد خبراء الإدارة المحلية في مصر، أنّ هذا المقترح ليس بدعة، إذ تعمل به العديد من إدارات الحكم المحلي في العالم، مؤكداً في الأخير أن تنفيذ المقترح بإقرار البرلمان لمشروع القانون يظل مرهوناً بموافقة الإرادة السياسية في البلاد.
مقترح قانون ينص على منح العاصمة الإدارية صفة الولاية
توظيف المباني القديمة
لا تكف التساؤلات حيال مصير المقار الحكومية، بعد بدء الانتقال رسمياً إلى العاصمة الإدارية. ويخلّف إخلاء هذه المباني ثروة عمرانية مهمة تنتظر إعادة التوظيف؛ على ما تقول الدكتورة سهير حواس، عضو مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وأستاذة العمارة والتصميم العمراني في جامعة القاهرة.
لا تخفي حواس في حديثها لـ"النهار العربي" قلقها من تراجع العناية الحكومية بالقاهرة وتركّز جل الاهتمام بالعاصمة الإدارية الجديدة، حتى ولو ظلت الأخيرة تتبع محافظة القاهرة؛ مطالبة في الوقت ذاته باستحداث مجلس أمناء لإدارة القاهرة التاريخية على أن تسجل كل المناطق التاريخية ذات الطابع العمراني المتميز على قوائم المناطق ذات القيمة، ويتمثل دور مجلس الأمناء في حمايتها، وصيانتها، علماً بأن جهاز التنسيق الحضاري لديه بالفعل دور في تحقيق ذلك، وفق ما تقول حواس.
وفي ما يتعلق بأنماط إعادة توظيف المقار الحكومية، تشدّد على أهمية الاعتماد على خبراء يجيدون التعامل مع إعادة توظيف تلك المباني، وتقول: "من يشيد المباني الجديدة، قد لا يملك خبرة ترميم وإعادة توظيف المباني التراثية".
وتلفت حواس إلى أنّ "المباني التي تنتظر إعادة التوظيف؛ تنقسم إلى فئتين، الأولى: المباني الحكومية ذات الطبيعة الخدمية، حيث تتميز بالغرف المتماثلة، وتشمل ساحات انتظار سيارات، مثل مجمع التحرير، وهذا نوع من المباني يصلح أن يتحول إلى فنادق أو مستشفيات".
وتتحدث كذلك عن "نوع آخر، وهو المباني التراثية، إذ تخضع لما يسمى بإعادة الاستخدام المتوافق؛ وفيه يكون لكل مبنى خصوصيته، ويحتاج إلى دراسة مستقلة، حتى تتحقق الغاية من ترميمه وإعادة توظيفه".
وتشير إلى أنّ "المباني التراثية تتوافق مع الأنشطة الثقافية أكثر من غيرها، إذ تكون أقلّ إهلاكاً لها"، مذكرة بتحويل بعض القصور التراثية إلى مدارس، وما ترتب على هذا الإجراء من أضرار بهذه القصور.
يفرض ثقل القاهرة التاريخية نفسه على تغيرات الزمن
استثمارات ضخمة
ينتقل للعاصمة الإدارية الجديدة نحو 34 مقراً حكومياً، تشمل جميع الوزارات والمؤسسات الرسمية، باستثناء الأزهر، وتقدّر دراسة أعدّها مركز العاصمة للدراسات والأبحاث الاقتصادية، أنّ قيمة المباني الحكومية القديمة تتجاوز 700 مليار جنيه مصري (8.14 مليارات دولار أميركي).
تندرج المقار الحكومية بالقاهرة تحت 3 تصنيفات: الأول؛ غير مسجل كأثر لدى وزارة الآثار، ولا ينتمي للطراز المعماري الفريد. والثاني؛ تاريخي ذو طراز عمراني مميز، ومسجل لدى صندوق التنسيق الحضاري. والثالث؛ أثري تابع لوزارة السياحة والآثار.
وتتملك هذه المباني ثلاث جهات، هي: صندوق مصر السيادي، الذي تنتقل إليه ملكية المباني الحكومية غير المستغلة، وشركة مصر لإدارة الأصول العقارية، وهي شركة مساهمة مصرية تابعة لشركة مصر القابضة للتأمين، ووزارة السياحة والآثار، وهي تتملك وتحمي المباني المسجلة كآثار.
وفي الآونة الأخيرة، أعلنت الحكومة إبرام عدد من صفقات استثمار وإعادة توظيف المباني الحكومية التي أُخليت، منها مجمع التحرير (1951)، وهو أول مجمع للخدمات الحكومية بمصر، وفي وقت سابق من عام 2023 أُعلن تغيير اسمه إلى "كايرو هاوس"، ليتحول إلى فندق فاخر ومجمع متعدد الاستخدامات، باستثمارات تصل إلى 200 مليون دولار أميركي، ومن المتوقع افتتاحه بنهاية عام 2025.
مبنى وزارة الداخلية يخضع كذلك لخطة تطوير تقضي بتحويله إلى منطقة متخصصة في الابتكار وريادة الأعمال، ويضمّ محلات تجارية، ومكاتب إدارية، وفرعاً لجامعة إيباغ الفرنسية لإدارة الأعمال، ومركزاً عالمياً لخدمات التعهيد، وفندقاً ثلاث نجوم.
ثمّة مبان أخرى عالية القيمة تحفل بها مدينة القاهرة، مثل مجلس النواب الذي يتكون من 3 مبان شيدت على مراحل، يعود تاريخ تشييد أقدمها إلى عام 1881. أيضاً هناك مبنى وزارة التربية والتعليم، المشيد بأمر من الخديوي إسماعيل عام 1874. أمّا مبنى وزارة الأوقاف فقد أنشئ عام 1899، على الطراز المملوكي.
مقترح تطوير مجمع التحرير
تاريخ يتجدد
شهدت مدينة القاهرة - كما نعرفها اليوم - عدداً من المدن ومقار الحكم على مدار تاريخها، جميعها تقع داخل الحدود الجغرافية لمحافظة القاهرة، بداية من الفسطاط، إلى العسكر، والقطائع، ثم القاهرة الفاطمية، وصولاً إلى قلعة الجبل، وانتهاء بالقاهرة الخديوية.
الباحث في تاريخ القاهرة، ومؤلف كتاب "الفسطاط وأبوابها"، عبد الرحمن الطويل يسترجع مراحل تشكّل القاهرة، فيقول إنّ "المدينة دائماً كانت تتوسع في صورة ضواحي الحكم. هذه الضواحي كانت في بداية نشأتها مغلقة على الحكام أو أجهزة الحكم، كان الإغلاق بسور، أو من طريق استئثار نخبة الحكم بحق السكن داخل هذه الضواحي".
ويضيف الطويل لـ"النهار العربي": "مع التوسع العمراني، وتغيّر الحكومات، كانت تتحول ضاحية الحكم إلى حي سكني عادي، ويبدأ البحث عن ضاحية حكم جديدة، وفي الغالب تكون في جهة الشمال الشرقي. يمكن رؤية ذلك في الفسطاط التي تحولت من حي الحكم إلى حي سكني، وكذلك حدث الأمر نفسه مع إنشاء مدينة العسكر التي كانت مقر حكم الوالي العباسي، ثم انتقل الحكم في عهد أحمد بن طولون إلى القطائع، التي كانت أشبه بحي أميري، ثم أصبحت جزءاً من المدينة في ما بعد".
مع نشأة القاهرة الفاطمية داخل الأسوار كانت بمثابة مدينة ملكية يسكنها الخليفة وحاشيته وموظفو الدولة، ويوجد بها مقر الدواوين والوزارة، ثم جاءت الدولة الأيوبية لتفتح المدينة أمام عوام الناس، وباتت أحد أحياء المدينة الكبرى، حينها بحث الأيوبيون عن مقر جديد للحكم، فكانت قلعة الجبل مستقر الحكام الجدد.
استمرّ حكم مصر من قلعة الجبل بداية من عام 1184م في عهد الملك الكامل بن صلاح الدين الأيوبي، مروراً بالعصرين المملوكي والعثماني، وصولاً إلى عهد الخديوي إسماعيل؛ حيث نُقل مقر الحكم من القلعة إلى قصر عابدين في نهاية القرن التاسع عشر.
ويرصد الباحث في تاريخ القاهرة التحولات التي شهدتها المدينة في العصر الحديث، معتبراً أن القاهرة الخديوية كانت حيّ نخبة في بادئ الأمر؛ إذ سكنته الطبقات القريبة من الحكم والأجانب، إضافة إلى وجود مقار أجهزة الحكم داخل حدوده.
ويقول الطويل إنّ الثقل بدأ ينسحب نحو الشمال الشرقي؛ حيث مدينة نصر ومصر الجديدة، ويمكن ملاحظة انتقال العديد من الوزارات إلى هذه الأحياء في عهد الرئيسين الراحلين محمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك، وهذا ما يحدث الآن مع العاصمة الإدارية الجديدة.
ويشدّد الباحث المصري على أن "الثقل التاريخيّ للقاهرة لا تستطيع منافسته أي مدينة جديدة أو قديمة داخل مصر"، لافتاً إلى أنّ "القاهرة تتمتع بثقل تاريخي وثقافي وبيروقراطي تراكم عبر أكثر من 1400 عام. هذا التراكم يحول دون نهاية ثقل المدينة العتيقة، لكنه أحياناً يتنقل داخل القاهرة، وفي نهاية المطاف يمكن القول إنّ العاصمة الإداريّة الجديدة تقع ضمن حدود القاهرة، وتعدّ إحدى ضواحيها".