في مساحة تضيق بالحاضرين، لكنها تتسع للبهجة؛ تفترش النسوة الأرض، وحولهنّ يجلس أطفال العائلة والجيران متهللين. تمسك أيادي الصغار والكبار بمناقيش تطبع الزخارف فوق العجين، قبل أن يتراص الكعك فوق ألواح من الصاج تنتظر دورها في دخول الفرن.
لهذا المشهد رائحة يعرفها كل من عايش هذه الطقوس؛ إذ إنّ رائحة الكعك المميزة تعلق بالذاكرة، وترتبط دائماً بطقوس صنعه؛ إذ دأب المصريون عليها منذ عهود بعيدة، تعود لزمن قدماء المصريين، ثم تطوّرت مع الأيام حتى دهمتها آفات الحداثة، وصارت في أحيان كثيرة رمزية أكثر منها طقوساً تتطلب بذل الكثير من الجهد والمال.
فكيف كانت طقوس صُنع كعك العيد قديماً؟ وكيف تغيّرت؟ وما أسباب التغيّرات؟ للإجابة عن هذه التساؤلات تحدّث "النهار العربي" إلى خبراء، وبعض المصريات ممن عايشن هذا التقليد في أوج ازدهاره، ويرون اليوم تراجعه.
طقوس مهدّدة
ثمّة أنواع مختلفة من المخبوزات التي تُصنع احتفالاً بالأعياد في مصر، والتي يشار إليها عامة بـ"كحك العيد"، ومنها: الكعك المحشي بالحلوى أو المكسرات، والغريبة، والبيتي فور، والبسكويت، ويشكل القوام الرئيسي لهذه المخبوزات: الدقيق والسمن واللبن، مع إضافات أخرى. وفي هذه الآونة يُباع كعك العيد بكثافة في محال الحلويات، وحتى وقت قريب كان يصنع في المنزل، وتحيط إعدادَه طقوسٌ احتفالية خاصة.
تستدعي آية الحسيني (32 عاماً) من محافظة الدقهلية شمالي مصر، ذكرياتها مع طقوس إعداد كعك العيد، فتقول: "في طفولتنا، كانت أمي تشترك مع الجيران في صنع الكعك، وكنّا نصنع كمية هائلة منه. في أحد الأعوام تزامن العيد مع زفاف إحدى بنات الجيران، فصنعنا تلالاً من الكعك والبسكويت؛ لتكفي عيد الفطر والزفاف".
وتضيف الحسيني في حديثها لـ"النهار العربي": "للعزلة الاجتماعية دور كبير في ضعف عادة إعداد الكعك منزلياً. هذه العادة بشكلها القديم اندثرت بشكل كبير بالفعل، أو على الأقل لا تُمارس بشكل موسع، كما كان الحال في التسعينات مثلاً؛ لأن البدائل باتت متوافرة في كل مكان، وأكثر سهولة".
وتوضح أنّ "إعداد كعك العيد بات عملية مكلفة بالطبع، وخصوصاً مع الضغوط الحياتية؛ إذ يصعب على المرأة العاملة إعداد كعك العيد في ظل كل انشغالاتها".
وتشير السيدة المصرية إلى أنها أقلعت عن إعداد كعك العيد بعد وفاة والدتها، التي كانت قد توقفت بدورها عن هذه الطقوس عقب رحيل والدها، لكنها عادت إليها مجدداً بعد سنوات.
رغم تراجعه إلا أنّ كعك العيد يستعيد الذكريات السعيدة لدى كثيرين.
أحزان وأعباء اقتصادية
كما أشارت الحسيني، فإن أحد المظاهر المرتبطة بطقوس كعك العيد، وخصوصاً في الريف المصري، توقُّف الأسر عن إعداده في حال وفاة أحد الأقارب أو الجيران؛ احتراماً لمشاعر أهل المتوفى، على اعتبار أنّ هذه العادة ذات طابع احتفالي، ولا يجوز استدعاء الفرح في حال ثمة مصاب لدى أحد الأقارب أو الجيران.
تأكيداً على هذه التقاليد، تقول ياسمين الجيوشي، وهي صحافيّة مصرية، إنها أحجمت عن إعداد كعك العيد هذا العام تضامناً مع أهالي غزة، إذ إنها لا تستطيع إظهار أي مظاهر احتفالية في ظل الإبادة الجماعية التي تحدث بحقهم.
ورغم هذا الموقف التضامني، إلا أن الجيوشي تقول لـ"النهار العربي" إنها في المعتاد تحافظ على تقليد إعداد كعك العيد كل عام، لكنْ ثمّة فارق كبير بين ما يحدث اليوم، وبين الطقوس التي عاشتها في طفولتها بريف محافظة دمياط شمال دلتا النيل.
تقول: "الآن أعيش مع أسرتي الصغيرة في مدينة الإسكندرية، ومع أني أُعدّ كعك العيد مع أطفالي، لكن في صغري كانت الأجواء مختلفة؛ إذ تجتمع أسرتي والجيران وجميع الأطفال أعلى سطح المنزل، أو في مدخل البيت المتسع، ويتشارك الجميع ببهجة في صناعة الكعك، وكان هذا الطقس بمثابة مدرسة تتعلم خلاله الفتيات الصغيرات فنون إعداد الكعك".
من جهتها، تتفق وفاء خيري (28 عاماً) من مدينة سوهاج بصعيد مصر، مع الجيوشي والحسيني في أنّ طقوس هذه العادة كانت تشمل تجمّع أفراد العائلة الممتدة والجيران، وتقول: "الآن اختفت أغلب هذه المظاهر، وتغيّرت الطقوس، وباتت عملية إعداد الكعك أشبه بمحاولة لاستعادة ذكريات جميلة عشناها في طفولتنا".
وتتابع خيري لـ"النهار العربي": "قديماً كنّا نصنع كميات كبيرة من الكعك، وكانت والدتي تخصص جزءاً منه لعدد من الأسر في العائلة، حينها لم يكن يمثل لنا الجانب الاقتصادي أي إزعاج، أمّا الآن فالأمور تغيّرت؛ إذ إننا نصنع كميات محدودة لمجرد الحفاظ على العادة".
تعتقد خيري أن أسباب تراجع طقوس كعك العيد تعود إلى الأعباء الاقتصادية، وانطفاء حالة البهجة في الأجواء العامة، كما أسهم في هذا التراجع أيضاً انتشار ثقافة الصحة العامة، التي تعتبر الكعك أحد المأكولات ذات السعرات الحرارية العالية، التي تتسبب في السمنة.
ورغم أنّ شراء الكعك الجاهز من محال الحلويات فرض نفسه بقوة على المجتمع المصري في الآونة الأخيرة، إلا أنّ الشابة المصرية تقول إنّ "هذا الأمر على سهولته، لكنه لا يعدّ خياراً متاحاً طوال الوقت في مدينة مثل سوهاج؛ نظراً لعدم توافر محال تصنع كعك العيد بجودة عالية".
وفي نهاية حديثها تشير خيري إلى أنّ "طقوس إعداد كعك العيد باتت بعيدة للغاية عن الأجيال الجديدة، لا سيّما الجيل زِد (مواليد منتصف التسعينات وحتى عام 2005)".
أصول قديمة
ثمّة أصول تاريخية لكعك العيد تتحدث عنها الباحثة في أنثروبولوجيا الطعام ماغي حبيب، إذ تقول لـ"النهار العربي" إنّ الخَبْز هو في الأصل طقس احتفالي، احتفت به كل الشعوب القديمة، وكذلك هو الحال مع قدماء المصريين، الذين اهتموا بالخبز للغاية.
ومن الحضارة المصرية القديمة نجد جذور كعك العيد، التي امتدت في الثقافة المسيحية والإسلامية على السواء، فلدى المسلمين الكعك المتعارف عليه، والمسيحيون أيضاً لا زالوا متمسكين بفطيرة الملاك، وكانت تصنع في عيد مصري قديم، على ما تقول حبيب.
وبالعودة إلى كعك العيد التقليدي، تشير إلى أنه "ازدهر للغاية في عهد الفاطميين الذين جاؤوا إلى مصر من شمال إفريقيا محملين بتراث ثري للغاية من المخبوزات، ومن الإضافات المهمة التي أدخلها الفاطميون في صنع الكعك، استخدام السكّر، الذي لم يكن شائع الاستخدام بين المصريين وقتذاك".
إعلان قديم يوثق بدايات بيع الكعك في محال الحلويات
أسباب التراجع
استمرّ تطوّر صناعة الكعك في مصر عبر الزمن، ورافقته التقاليد والطقوس التي تراكمت عبر الزمن، حتى طرأت تحولات لافتة منذ منتصف القرن الماضي.
وتقول الباحثة في أنثروبولوجيا الطعام إنّ "هذه الطقوس كانت منزلية بالأساس، تجتمع حولها العائلة الممتدة، وتنتج كمّاً كبيراً من هذه المخبوزات وكانت تُخزّن لأشهر، ثم تحولت أخيراً إلى طقوس محدودة تنتج كميات أقلّ".
وعن أسباب التراجع تقول حبيب إنّ "التحولات التي طرأت على المجتمع المصري، خاصة في ستينات القرن الماضي، أسهمت في تراجع هذه الطقوس. ففي المدينة أصبحت السيدات يعملن في الوظائف بصورة غير مسبوقة، وتلقائياً تراجع اهتمام المرأة العاملة بصناعة الكعك في البيت، وربما اقتصر الأمر على صنع كميات بسيطة، للحفاظ على التقليد فقط".
وتضيف: "أمّا في السبعينات والثمانينات فظهر تطور لاحق، أسهم أيضاً في تراجع الطقوس؛ إذ انتشرت محال الحلويات التي تقدّم الكعك الجاهز؛ في ظل موجة الانفتاح والهجرة إلى الخليج، ومن ثم زيادة القوة الشرائية للمصريين. وفي عصر منصّات التواصل الاجتماعي، أصبح بيع الكعك رائجاً للغاية".
في مقابل التحولات التي طرأت على المدن، ظل الريف المصري محتفظاً بطقوس كعك العيد حتى وقتٍ قريب، إلى أن نالته يد المدنية أخيراً، وبات الريف نموذجاً مصغراً "مشوهاً" لحياة المدن، ما أفقده جوانب عديدة من خصوصيته الثقافية، بما فيها طقوس كعك العيد، التي انزوت إلى الهامش، وباتت مهدّدة بالاندثار.