لا تترك الحرب في السودان مجالاً للفرح بعيد الفطر الذي يطرق أبواب الناس للمرة الثانية وسط اشتعال المواجهات في عدة مواقع بالبلاد، فيما تغرق مناطق أخرى بسلسلة من أزمات الجوع وانقطاع الخدمات وصولاً إلى همّ النزوح المتكرر، فتغيب كل مظاهر البهجة لصالح يوميات الدم والنار.
لم ينس السودانيون مرارة عيد الفطر العام الماضي، حين كانت أصوات الاشتباكات تملأ شوارع الخرطوم التي ودعت العديد من سكانها نازحين إلى ولايات أخرى بالتزامن مع عمليات إجلاء الرعايا الأجانب، فاستحالت العاصمة الصاخبة شوارع فارغة، إلا من حافلات المغادرين وجثث ملقاة جراء المعارك التي لا تتوقف، فيما كانت مدن إقليم دارفور تتشارك اللحظات العصيبة ذاتها، وسط انقطاع في خدمات الاتصالات والكهرباء ونقص في الأغذية، ما أعاد أبناءه عقدين، حين اختبروا الحرب باكراً.
على أن المشهد اليوم لا يتغير عن العيد الفائت، بين معاناة من تبقى في الخرطوم أو عاد إليها أخيراً، وبين النازحين في باقي الولايات، حيث يسكنهم هاجس تأمين المستلزمات اليومية وخطر تمدد الحرب نحوهم، فيما يحبس سكان الفاشر شمال دارفور أنفاسهم وسط تحذيرات من تمدد الحرب إلى آخر مساحة آمنة في الإقليم.
خوف وشبه حياة في الخرطوم
وسط العاصمة، يقع شارع البلابل، حيث يتفرع من شارع رئيسي يقود إلى مطار الخرطوم الدولي، ويقع عند مدخله مستشفى مركزي مخصص لأمراض القلب، قبل أن تنتشر سلسلة محال تجارية وبجوارها عشرات الأبنية السكنية. هو، باختصار، كما يصفه مهندس الانشاءات خالد مصطفى، شارع لا يعرف الصمت. غير أن المكان ذاته قد استحال مسرحاً للقتال منذ أول أيام الحرب العام الماضي، ليغدو اليوم أبنية محروقة وأسواقاً مدمرة، فيما يعاني من تبقى للحصول على ما يبقيهم أحياء، وفقاً لقول المهندس الذي يتابع في حديثه لـ"النهار العربي": " لا أحد يتذكر العيد، ندخل اليوم الخامس والستين بدون كهرباء ولا مياه. أما شبكات الاتصال، فهي ضعيفة جداً لدرجة الحاجة للوقوف في مكان مرتفع لالتقاط الإشارة. الناس يعتمدون على مياه الآبار وهي ملوثة، ولكن لا حل آخر أمامنا، والعوائل التي بقيت في المكان صار همّها فقط توفير بعض الخبز أو مواد رئيسية لقوت يومها، وفي المنازل نحاول جاهدين إيجاد تسلية للأطفال بعيداً عن الوجع اليومي".
ولكنّ هاجساً أكبر يقلق المهندس الثلاثيني، وهو انتشار من يصفهم بـ"النيغيرز"، وهم عصابات مسلحة، معظمهم غير سودانيين، يقومون باقتحام البيوت ونهبها، معقباً: "ينتشرون في الشوارع وهم يحملون السواطير والعصي، حيث يراقبون حركة المارة، ثم يستغلون ساعات الليل لتنفيذ هجماتهم. لقد سرقوا مستودعاً للأدوية قريباً من منزلي قبل أيام. صحيح أن هذه الظاهرة كانت موجودة قبل الحرب، ولكن الأهالي وجهاز الشرطة كانوا يتصدون لها. أما اليوم، فالخوف هو السائد".
أم درمان تتنفس مجدداً
على الضفة الغربية للنيل وتحديداً في أم درمان، يبدو الحال أفضل نسبياً من الخرطوم، إذ تمكن العديد من سكان المدينة من العودة أخيراً بعد استعادة القوات المسلحة مساحات مهمة فيها. ويترقب مهندس الري عبد الباقي حمد النيل لحظة يقول إنها إشارة عودة الحياة لمدينته، وفق حديثه لـ"النهار العربي": "أنتظر رفع الأذان لصلاة العيد في مسجد النيلين بأم درمان. فمنذ عام لم يصدح صوت الأذان بسبب المعارك، واليوم عادت الكثير من مظاهر الحياة لنا".
لا يخفي عبد الباقي حزنه على الدمار الواسع الذي ضرب أم درمان، ولكنه في الوقت ذاته يبدي تفاؤلاً بقدرة السودانيين على إعادة ترميم البيوت والمحال والأسواق بسرعة، مضيفاً: "الشوارع التي أصبحت آمنة عادت تضج بالناس بشكل سريع. صحيح أن الكهرباء لم تعد كما كانت، ولكن شبكات الاتصال تحسنت وثمة نشاط واضح لمتطوعين يقومون بدفن الجثث. كما تتم فتح الكثير من الشوارع والطرق الرئيسية وإزالة المتاريس".
رغم الحرب... أجواء العيد حاضرة في الفاشر
لا تغيب مظاهر الاستعدادات للعيد عن أبناء مدينة الفاشر، عاصمة إقليم شمال دارفور، مع أن المنطقة لم تعرف الهدوء خلال الأيام الماضية وسط قصف جوي متكرر يطال شرقي الولاية، بينما يسود القلق من الأنباء عن استعدادات لهجوم قوات الدعم السريع على آخر معقل للجيش في الإقليم.
ومع هذا كله، لا تزال الأسواق تضج بالسكان وسط توافر نسبي للمواد الغذائية، بحسب فاطمة أحمد، المعلمة الهاربة من جنون الحرب في نيالا، جنوب دارفور. لقد وجدت متنفساً في الفاشر لشراء بعض الحاجيات وإعداد حلويات لأطفالها عشية العيد. وتقول فاطمة لـ"النهار العربي": "تبقى ظروفي أفضل من غيري، إذ تمكنت من تحضير بعض الحلويات للأولاد. هؤلاء لا ذنب لهم ومهما كانت الحرب ظالمة، فالواجب أن أشعرهم بشيء من السعادة وفق ما أستطيع". ولعل ما وجدته السيدة في الفاشر هو الاستقرار الذي شجع مبادرات أهلية لتقديم العون وإيجاد مساحة آمنة رغم الأوضاع الميدانية التي يعيشها الإقليم.
ويعلق الكاتب معمر إبراهيم لـ"النهار العربي" على الوضع العام عشية عيد الفطر، متحدثاً عن استمرار غارات الطيران الحربي في ساعات الليل عند المناطق الشمالية والشرقية للولاية، عند منطقة المصانع وقرب معسكرات للنازحين يتمركز بجوارها مقاتلون من قوات الدعم السريع: "يحاول عناصر الدعم التسلل إلى السوق الكبير، فتحدث اشتباكات متقطعة. أما في الجهة الغربية للولاية، فقد قتل 17 شخصاً أخيراً جراء اشتباكات مع القبائل العربية والدعم السريع في بركة وسرفايا وقرب معسكر زمزم للنازحين".
وإذ يشير إبراهيم إلى حشود من قوات الدعم في الجهات الشرقية والشمالية والغربية، فإنه يقلل من احتمالية اقتحام قواتهم للمدينة، قائلاً: "لا يزال الدعم في مناطق طرفية، حيث يقوم الجيش بشن غارات، ويتم القبض على المتسللين للأسواق. وثمة قوة كبيرة من الجيش والحركات المسلحة تتمركز وسط الفاشر".