النهار

السودان في الذكرى الأولى للحرب... كيف تصاعد التوتر ليطيح بالتسوية؟
طارق العبد
المصدر: النهار العربي
لن ينسى السودانيون يوم الخامس عشر من نيسان (أبريل) 2023، حين انهارت آخر مساعي التسوية السياسية، لتشتعل الخرطوم للمرة الأولى في تاريخها المعاصر باشتباكات امتدت بسرعة في عدد من الولايات، وشلت الحياة الاقتصادية والاجتماعية في بلد كان يتلمس خطواته الأولى ضمن مرحلة انتقالية طال أمدها.
السودان في الذكرى الأولى للحرب... كيف تصاعد التوتر ليطيح بالتسوية؟
البرهان وحميدتي قبيل الصدام الدامي. (أرشيف)
A+   A-

لن ينسى السودانيون يوم الخامس عشر من نيسان (أبريل) 2023، حين انهارت آخر مساعي التسوية السياسية، لتشتعل الخرطوم للمرة الأولى في تاريخها المعاصر باشتباكات امتدت بسرعة في عدد من الولايات، وشلت الحياة الاقتصادية والاجتماعية في بلد كان يتلمس خطواته الأولى ضمن مرحلة انتقالية طال أمدها. غير أن نظرة عن قرب توحي بتراكمات سياسية تطرح الأسئلة عن توتر تصاعد تدريجياً ليطلق موجة الحرب الأعنف في البلاد.

من الاحتقان إلى الحرب المفتوحة
بدت الشراكة واضحة بعد عزل البشير، الذي أسهم في تضخيم "قوات الدعم السريع" وتبعيتها له مباشرةً، فتحالفت مع المؤسسة العسكرية لاقتلاعه، لكن التضاد بين القوتين سيظهر تباعاً، ليتعزز أكثر مع توقيع الاتفاق الإطاري في الخامس من كانون الأول (ديسمبر) 2022، ولتبدو أولى علامات الشقاق، وتتصاعد الحرب الكلامية مع إصرار جنرالات الجيش على دمج "الدعم" في صفوفه خلال مدة قصيرة، الأمر الذي رفضته قيادة الأخير، خصوصاً وقد غدت "قوات الدعم" إمبراطورية مالية كبرى، تتمتع بعلاقات إقليمية وامتيازات هائلة، ورواتب للمقاتلين تشكل حافزاً للانضمام لصفوفها.

حرب كلامية ما لبثت أن اتّسعت لتضع الأصابع على الأزندة، ابتداءً من السادس من نيسان 2023، يوم كان مقرراً تشكيل حكومة مدنية بموجب الاتفاق الإطاري. تحركت قوات من "الدعم" لتطوق مدينة مروي في الولاية الشمالية، حيث كانت قوات مصرية تجري مناورات مع الجيش في المطار الدولي التابع للمدينة. وفي الوقت نفسه، ترسل "قوات الدعم" تعزيزات عسكرية إلى وسط الخرطوم، وهو ما اعتبره الجيش بمثابة دق لناقوس الخطر. مساعي القوى السياسية والأطراف الإقليمية والدولية للتهدئة فشلت، وانهارت الأمور صبيحة الرابع والعشرين من رمضان، الخامس عشر من نيسان، حين تمكن عناصر "الدعم" من السيطرة على مطار الخرطوم ومبنى الإذاعة والتلفزيون، وقطع غالبية الجسور الواصلة بين مدن العاصمة الثلاث وصولًا لمقر إقامة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، الذي فقد عدداً من حراسه الشخصيين قبل أن يتمكن عناصر حمايته من نقله لمقر القيادة العامة، إيذاناً باشتعال الحرب التي امتدت إلى إقليم دارفور وشمال كردفان وجنوبه، ثم ولاية الجزيرة وسط البلاد، فيما نجت الولايات الشرقية من المواجهات وشكلت محطة النزوح للفارين من جنون الرصاص.
 

اصطفافات ما قبل المواجهة... ما دور الأحزاب؟
لم تكن الأحزاب السياسية بعيدة بشكل كامل عن المشهد في السودان منذ الاستقلال، بل لعل من المفارقات أن البلاد التي عرفت سلسلة انقلابات عسكرية قد عرفت أيضاً أحزاباً سياسية تأسست منذ الأربعينات وأثارت جدلاً بشأن نفوذها ضمن القوات المسلحة وتحريض قادة الجيش على استلام السلطة قبل أن يستأثر الجنرالات بها. وهو ما شمل العديد من التيارات بمن فيهم الإسلاميون يوم تحرك عمر البشير ضد حكومة الصادق المهدي ليعلن نظام الإنقاذ ويحكم البلاد لثلاثين عاماً، وتصاعد دور هذه القوى إثر عزل البشير وصولاً للحرب الحالية.

وجهة النظر هذه يفسرها الكاتب والباحث في التاريخ والعلاقات الدولية أحمد دهشان في حديثه لـ"النهار العربي"، إذ يعتبر أن الأحزاب السياسية في السودان كانت تسعى للوصول للسلطة عبر دبابة الجيش واستغلال قوته لفرض أمر واقع وتغيير سريع دون محاولة للنضال والعمل بالشارع، حسب قوله، ويقول: "لماذا تتخيل أن صاحب القوة العسكرية الذي أطاح النظام القديم وأتى بك إلى السلطة لن يأخذها هو؟ وهو ما سيحدث في أي بلد بالعالم؛ فإن كان الجيش قادراً على جلب السلطة لك وإزاحة أعدائك، فلماذا يمنحها لك؟ وهذه مشكلة مزمنة لدى النخبة السياسية السودانية".

وتفتقر هذه الأحزاب، بحسب دهشان، لأي شكل من أشكال الديموقراطية، إذ لا توجد ضمنها عملية انتخابية، وعليه سيكون اختراقها سهلاً، وفق قوله: "هذه النخب لم يخترها الشعب السوداني، بل احتكروا العملية السياسية وادعوا أنهم يمثلون الثورة، ومن قام بالثورة من الشباب لم يكن لهم القدرة على التنظيم واختيار من يمثلهم، فهنا نخب متصارعة على السلطة وغير ديموقراطية وغير مختارة من الشعب".
 

بدوره، يعتبر الكاتب والباحث محمد مصطفى جامع أن القوى السياسية السودانية، وعلى مدى التاريخ، كانت تسعى لتقاسم السلطة والمحاصصة مع العسكر، وصولاً للمرحلة الراهنة. ويعلق في حديثه لـ"النهار العربي" على ما جرى بعد توقيع الوثيقة الدستورية والاتفاق الإطاري قائلاً: "ما تم في الوثيقة الدستورية 2019 لم يكن بعيداً عن السياق التاريخي، وحصل الأمر نفسه في الاتفاق الإطاري 2022، لكن قوى الحرية والتغيير هذه المرة تحركت للتعامل مع الدعم السريع الذي وقع الاتفاق ككيان مستقل، فيما حضر بالوثيقة الدستورية بصفته ضمن المكون العسكري".

ويشير جامع إلى ما يصفه بـ"فلسفة قوى الحرية والتغيير القائمة على ضرب الجيش بالدعم السريع، على اعتبار أن الجيش مسيطر عليه من الإسلاميين، وللوصول للسلطة يجب التحالف مع الدعم".

ويتفق دهشان مع رؤية جامع، خاصةً بعد ظهور ما يصفه بالتناقض بين "الدعم السريع" والجيش. فالقوى السياسية الداخلية "عادت لتمارس عادتها باللعب على كل الأطراف، ولم يكن اللعب على الجيش فقط، فهو لم يبقَ الوحيد المحتكر للعنف المنظم. وثمة طرف آخر بات يمتلك قوة عسكرية تعتبر 'شرعية' نتيجة شرعنة قوات الدعم واعتبارها جزءاً من أجهزة الدولة، وبدأ كل طرف يغري الآخر بالانقلاب وأنه سيكون مسانداً له. فتخيلت تلك القوى أن الدعم السريع، كاسحة الألغام، قادرة على اكتساح الجيش وإضعافه وضربه، ولن تستطيع الحكم، ولا خشية أن تسيطر على المشهد باعتبارها لا تملك الخبرة ولا الكوادر ولا القبول المجتمعي لحكم البلاد".

كيف تضاعفت قوة "الدعم السريع"؟
على رغم التفاهم ضمن الاتفاق الإطاري، الذي يقضي بدمج "الدعم السريع" في صفوف الجيش، إلا أن هذا البند قد شكل السبب الأكثر مباشرة لاشتعال المواجهات بعد شهرين، وسط قوة تكبر تدريجياً لـ"الدعم" واستياء من القوات المسلحة، مع اتهامات بالتغاضي عن هذا النمو المتسارع. ويعبر جامع عن هذا قائلاً: "في الحقيقة، كان واضحاً أن مشروع الدمج لم يتم. فما حصل بين عامي 2019 حتى 2023 هو تضخم من 40 ألف مقاتل إلى أكثر من 120 ألفاً، مع استثمارات مالية كبرى وعلاقات خارجية مستقلة. بل أن البرهان وشمس الدين كباشي قد تورطا بذلك ودافعا عنه، لدرجة أن البرهان وصف الدعم السريع بالمدافع عن النائمين في بيوتهم، كإشارة إلى منتقدي حميدتي".
 

وتبدو فكرة تعددية السلاح بمثابة الأزمة الأساسية التي ولدت الصراع الحالي، بحسب دهشان، الذي يفسر المسألة بقوله: "ثمة جيش قومي يمثل كل الطوائف والمناطق في السودان بشكل أو بآخر، ولديه إمكانات وقدراته المادية لا تتناسب مع قوات الدعم السريع التي لم تتخرج من جامعات ولا أكاديميات عسكرية ولم تتدرج في العمل الوظيفي بشكل بيروقراطي. وارتكب هنا عمر البشير خطيئة عظمى حين سمح لها بأن تتعامل مباشرة كمقاول عسكري في الخارج، فكانت النتيجة مزيداً من المال بالإضافة لما لديهم من الهيمنة في دارفور بعد الحرب الأهلية والحصول على أفضل المناطق للرعي والتجارة".

ولعل هذا المشهد هو ما أثار استياء العسكريين وغضبهم، بحسب دهشان الذي لم يفاجئه تفجر الصراع، بل لعله يرى أن ما جرى كان تأجيلاً لتفجير حدث في نهاية المطاف بحسب رأيه.

لكن جامع يرى في المقابل أن العسكريين قد ارتكبوا ما يعتبره "الخطأ الذي لا يغتفر". فثمة شخصية تم تمكينها وترك القوات التابعة لها تتضاعف ثلاث مرات، مضيفاً: "خلال دقائق، سيطر الدعم على المطار والإذاعات والوزارات التي كان أصلاً يحرسها، ومطلوب منه مسبقاً تأمين المواقع الاستراتيجية. لذا، من الطبيعي عندما تمكن وتقوى رجلاً كحميدتي ألا يقبل بالبقاء في موقع الرجل الثاني ويطمح لأن يكون هو الرجل الأول. وهي خطيئة المجلس العسكري وليس القوى المدنية التي تحالفت مع الدعم في وقت لاحق وتورطت معه".

اقرأ في النهار Premium