قد يكون توصيف الحرب المنسية هو الأقرب لتعاطي العالم مع المعارك في السودان، والتي تدخل عامها الثاني دون مساع سياسية فاعلة لوقف القتال برغم كل التحذيرات من كارثة إنسانية باتت تضرب ملايين السكان، فيما تقدمت مبادرتان، الأولى في جدة والأخرى تتمثل في الحراك الأفريقي الذي غدا أقرب إلى قائد "قوات الدعم السريع".
ومع نهايات العام الأول للحرب، تقدمت دول عدة بمبادرات تسعى إلى جمع قيادات الجيش و"الدعم السريع" للتفاوض، من دون أن يفلح أيّ منها بذلك. وفيما قطعت الحكومة السودانية تعاملها مع الهيئة الحكومية للتنمية (الإيغاد)، إثر اجتماعها الأخير في أوغندا، فإن اللقاءات في العاصمة البحرينية المنامة لم تسفر عن أي تقدم على الأرض. وهو مصير لاقته مبادرة مصر ودول الجوار. أما منبر جدة والوساطة السعودية - الأميركية، فليس ثمة أفق قريب لدعوة الطرفين للتفاوض مجدداً، كما لم تقدم بعثة الاتحاد الأفريقي والمبعوث الأممي رمطان لعمامرة أي مبادرات جديدة ملحوظة لوقف القتال.
هل أدار العالم ظهره للسودان؟
في حديث لـ"النهار العربي"، يرى الكاتب والمحلل السياسي محمد الأسباط أن المجتمع الدولي أدار ظهره للسودان، وخاصة في الشهور الستة الأخيرة، بالتزامن مع حرب غزة والتطورات الأوكرانية. ويقول: "لم يُبدِ المجتمع الدولي حتى الآن إرادة حقيقية لوقف الحرب أو للضغط لتوفير ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية. كما أن هذه الحرب يمكن اعتبارها منسية وكشفت نفاق المجتمع الدولي بما يتعلق بحقوق الإنسان، وخاصة حق الحياة وحق الصحة والغذاء والتعليم، وكل المؤشرات وتقارير المنظمات تؤكد أنها حرب كارثية تترتب عليها أزمات خطيرة إقليمياً ودولياً، ورغم كل هذا، أدار العالم ظهره".
رؤية الأسباط تتفق أيضاً مع كلام المحلل السياسي خالد التيجاني الذي يرى أن المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، لم يبذل أي جهد واضح، لكنه يعتبر في الوقت نفسه أن التعامل الدولي قد اتسم بالتسطيح واعتبار ما يجري مجرد حرب بين جنرالين. ويقول التيجاني لـ"النهار العربي": "حاول المجتمع الدولي والولايات المتحدة المساواة بين الطرفين كمن يضفي الشرعية على الدعم السريع، وهذا خطأ أساسي في التعامل الخارجي مع الحرب، وأحد أسباب استمرارها. ومع أن الأمم المتحدة تعترف بالبرهان رئيساً لمجلس السيادة والمؤسسة الوطنية، إلا أن هذه الإجراءات لم تترتب عليها مواقف سياسية تقود لوقف الحرب".
ويعود التيجاني في تحليله إلى خمس سنوات، إذ يرى أن "التدخل الخارجي قد أفشل الحراك والوثيقة الدستورية التي كانت بوساطة خارجية"، وصولاً إلى تبني الاتفاق الإطاري من خلال "لعب المجتمع الدولي دوراً بإحداث انقسام داخل المكون العسكري وإعطاء الدعم السريع صيغة مستقلة عن الجيش مقابل دعم الفترة الانتقالية، وهو ما أدى لتطورات أشعلت الحرب".
هل يتجدد الأمل بمنبر جدة؟
يعتبر الأسباط أنه وعلى رغم جهود المبعوث الأميركي الجديد توم بيرييلو، الذي زار اغلب دول المنطقة، فإن لا مؤشرات حقيقية لقرب جلوس الطرفين إلى طاولة التفاوض. ويتابع أن "السبب الأساسي لـذلك أن المبعوث الأميركي لا يمتلك خطة لدفع الطرفين لوقف القتال، وخاصة بعد تعقيدات حرب السودان، وأي جهد لدفع الطرفين يتطلب الضغط على الدول المؤثرة لتمارس بدورها تأثيراً على طرفي الحرب. كذلك، فمن سيدير المفاوضات عليه اجراء سلسلة لقاءات ترتيبية مع الجيش والدعم السريع، وهذا لم يحدث، ويجب أن يكون لديه أجندة واضحة للحوار، وهذا ما لم يتوفر حتى الآن".
على أن التيجاني يذهب إلى أبعد من ذلك، مستذكراً اتفاق جدة في أيار (مايو) 2023 حين كان الغرض الأساسي هو حماية المدنيين والالتزام بالقانون الدولي الإنساني وميثاق حقوق الإنسان، ويضيف: "كان ممكناً أن يوقف اتفاق جدة الحرب لو كان ثمة التزام واضح، ولكن منذ وقت مبكر تم انتهاك الاتفاق وتحولت الحرب من نزاع مع الجيش إلى حرب ضد المواطنين، وقام الدعم السريع بانتهاكات تتمثل باحتلال منازل المواطنين وارتكاب مجازر كما حصل في الجنينة غرب دارفور وضد قبيلة المساليت في حزيران (يونيو) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2023".
لهذه الأسباب تعاملت الدول الأفريقية مع حميدتي
بالتزامن مع إلغاء لقاء مرتقب كان سيجمع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ظهر الأخير علناً مطلع العام الجاري للمرة الأولى منذ بداية الحرب في جولة أفريقية حظي في بعضها باستقبال الرؤساء، كما حصل في كينيا. ثم دعوته لقمة طارئة لـ"الإيغاد" لينضم للمجتمعين في أوغندا، ما أثار غضب الخارجية السودانية التي قررت القطيعة مع المنظمة الأفريقية. غير أن تعاطي الهيئة الحكومية وبلدان القارة السمراء أثار جدلاً واسعاً يشير إليه الكاتب المتخصص في القضايا الأفريقية منير آدم. فالأوضاع في السودان اتسمت بتعقيدات كثيرة منذ عزل الرئيس السابق عمر البشير.
ويقول لـ"النهار العربي": "تميل إثيوبيا وكينيا وأوغندا وجيبوتي إلى حميدتي أكثر منها إلى البرهان لاعتبارات سياسية وأمنية، إذ استطاع الأول - بحسب شهود كثيرين - فرض الهيمنة على معظم المناطق في السودان رغم أن الجيش ينفي ذلك. هذا الانحياز لم يأت من فراغ، وإنما نتيجة لتراكم سياسات سلبية وغير مدروسة تبناها البرهان، والتنصل من الالتزامات والتهرب من لقاء خصمه حميدتي لتجاوز الخلافات وإنهاء الحرب. فأصبح يفرض شروطاً ويضرب مقررات الإيغاد بعرض الحائط ويتوعد بإجراءات ضد أي دولة في المنطقة تستقبل حميدتي كزعيم بديل. كل هذه السياسات الخاطئة والتعنت، منحت قائد الدعم السريع فرصة على طبق من الدهب ليثبت للزعماء أنه منفتح للحوار ومتمسك بمخرجات قمة الإيغاد، وللظهور كزعيم بديل للبرهان يسعى لرفع المعاناة عن السودانيين واستعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد".
على أن الميل الأفريقي لا يعني بحسب آدم رغبة حقيقية لدى "الإيغاد" بالتعاطي الجدي مع حميدتي كمشروع بديل للبرهان. "فاتصالاتها بقائد الدعم السريع تأتي من منطلق الحرص ورغبتها بجمع الطرفين لإنهاء الحرب"، مستدركاً أن تعاطي بعض البلدان الأفريقية مع الرجل كبديل للبرهان قد يكون لدوافع سياسية ومصالح استراتيجية.