في عام 2017 جاءت فيرونيكا ميرلو إلى مصر؛ فتاة إيطالية في مطلع العشرينيات من عمرها، لم ترد أكثر من النجاح في رحلتها التعليمية والعودة لبلادها، لكن ثمّة مفارقة جعلت من تجربتها في المحروسة حدثاً استثنائياً، وصفته بأنه كان أشبه بـ"ميلاد جديد".
في طفولتها، لم تعرف ميرلو عن بلدان الشرق الأوسط غير الصورة النمطية التي يعرفها أقرانها في أوروبا؛ تلك البلدان الغارقة في العنف والفقر، التي لا تكف عن تصدير اللاجئين إليهم، لكن هذه الصورة تغيرت رويداً رويداً، حتى صار الشرق في عينيها منبع قيم ومبادئ، ومصدر إلهام.
تقول الشابة الإيطالية لـ"النهار العربي" إن الحياة في مصر منحتها النصف الآخر من قلبها، فاكتمل شعورها بمعاني الحب فيها، حيث تعلمت معاني وقيماً إنسانية ألهمتها في تأليف كتاب بالإيطالية عن مصر، تحت عنوان: "فاجئ نفسك في مصر: 10 تعبيرات عربية مصرية لرحلة إعادة التطور".
الكتاب الذي نُشر في إيطاليا أيار (مايو) العام الفائت، يتضمن 10 مبادئ تعلمتها ميرلو من تجربتها في مصر؛ إذ يحمل عنوان كل فصل مثلاً عامياً تنبع منه قيمة إنسانية عايشتها، وتستفيض في شرحها وربطها بمواقف عايشتها عن قرب في الحياة اليومية هنا.
ألفت فيرونيكا كتابها عن مصر من واقع الحياة اليومية
افتتان بالعربية
نشأت فيرونيكا في قرية صغيرة بالقرب من مدينة تورينو شمال غرب إيطاليا، بالقرب من الحدود الفرنسية، لم تعش خارج قريتها إلا مع دراستها الجامعية في فرنسا، بجامعة ساينس بو باريس؛ حيث درست العلوم السياسية، واختارت التخصص في دراسات الشرق الأوسط.
لكن قبل التحاقها بالجامعة وقعت ميرلو في غرام اللغة العربية، عندما شاهدت مقطعاً مصوراً في المدرسة الثانوية، يشرح فيه المستشرق الإيطالي باولو ديل أوغليو قصة ترميمه دير مار موسى الحبشي في سوريا، حينها تعمقت أكثر في البحث عن حكاية الدير عبر الإنترنت، وللمرة الأولى ترى الأحرف العربية التي فتنتها، كما قادها البحث للتعرف أكثر إلى البلدان العربية، لا سيما التي تقع على البحر المتوسط، ومنها مصر.
في عام 2015، التحقت ميرلو بجامعة ساينس بو باريس؛ حيث تعرفت أكثر إلى مصر، ودرست اللغة العربية، والمفارقة أن أستاذتها التي درّستها العربية هي المصرية لميس عذب. تقول فيرونيكا إن عذب قربتها أكثر إلى مصر واللغة العربية؛ بسبب شخصيتها المبهرة وطريقة شرحها البسيطة والجذابة.
بعد قضاء عامين في الجامعة، تحتم على ميرلو أن تختار الدراسة في جامعة أخرى خارج فرنسا ضمن برنامج التبادل الطلابي؛ لاستكمال شهادة البكالوريوس. تقول إنها اختارت الدراسة في جامعة الإسكندرية، إذ رغبت في التبحر أكثر في دراسة اللغة العربية.
رغم معارضة أسرتها خوفاً عليها، جاءت الشابة الإيطالية إلى الإسكندرية، وهي على أعتاب عامها الواحد والعشرين، تقول: "حينها كنت لا أزال صغيرة، وأستطيع القول إن شخصيتي تشكلت في مصر خلال هذا العام، أسهم في ذلك اختلاطي مع الآخرين وتبادل المعارف معهم".
كانت زيارة ميرلو الأولى إلى مصر ضمن برنامج تعليمي في جامعة الإسكندرية
رحلة الكتاب
بعد انتهاء عامها الأول بالإسكندرية في 2018، عادت فيرونيكا مجدداً إلى جامعتها في فرنسا لإنهاء شهادة البكالوريوس، ثم الشروع في دراسة الماجستير، وبمجرد الحصول على درجة الماجستير، قضت بعض الوقت مع أسرتها في شمال إيطاليا إبّان جائحة كورونا، ثم عادت إلى مصر مجدداً.
تقول بلهجة شاعرية: "أتذكر أنه بمجرد وصولي أول مرة إلى مصر، شعرت أنني أودّ استكمال حياتي كلها هنا للأبد؛ حينها شعرت بطاقة لم أستشعرها في أي مكان آخر، رغم زيارتي للعديد من البلدان، وربما هذا هو السبب الذي جعلني أشعر أنني وجدت نصف قلبي هنا، إلى جانب أيضاً أن الحياة في مصر ثرية للغاية ومليئة بفرص التعلم".
بعد عودتها إلى مصر في نهاية عام 2020، أقامت ميرلو في مدينة دهب بجنوب سيناء؛ حيث عملت في تدريس العربية والإنكليزية في إحدى المدارس، وانخرطت في التطوع في مشروعات محلية. وفي هذه المدينة الهادئة قررت العمل على تأليف كتاب عن مصر.
تقول إن فكرة الكتاب نبتت في مخيلتها أول الأمر عندما كانت تدرس الماجستير في باريس. هناك شعرت بامتنان عميق لمصر، وللدروس التي تعلمتها منها. فكانت رغبتها في مشاركة ما تعلمته دافعاً لتأليف هذا الكتاب، فشرعت حينها في كتابة أفكار عامة ومحاور ساعدتها في إنجاز الكتاب عندما جاءت إلى دهب.
ثمّة صورة نمطية ترسخت في مخيلة الأوروبيين عن مصر، فهي إما بلاد الأهرامات والآثار، أو موقع يتميز بالمنتجعات السياحية الخلابة على شواطئ البحر الأحمر. حاولت فيرونيكا في كتابها هدم هذه الصورة، والنظر إلى مصر من واقع الحياة اليومية؛ كيف يعيش المصريون؟ وكيف يتفاعلون مع بعضهم البعض؟ لافتة إلى أن ثمّة محيطاً واسعاً للغاية يمثل الحياة في مصر أكبر وأعمق من تلك الصور النمطية.
نبتت فكرة الكتاب عندما كانت ميرلو تدرس الماجستير في باريس
10 مبادئ
مضت عملية تأليف الكتاب بسهولة؛ في البداية كتبت بالإنكليزية ثم ترجمت النص للإيطالية، واعتمد الكتاب برمته على تجربة العام الأول لها مع مصر؛ إذ ترى ميرلو أن العام الذي عاشت أغلبه في الإسكندرية مع وقت قصير في القاهرة، ساعدها في تشكيل شخصيتها، بالاعتماد على بعض المبادئ التي تعلمتها وقتذاك.
تصف فيرونيكا تأثير الإسكندرية الطاغي عليها، فتقول إنها تشبه عديداً من المدن في دول حوض المتوسط، وفي هذه المدينة اكتشفت ميرلو جوهرها كشخصية تنتمي لثقافة البحر المتوسط، التي تشترك في العديد من القيم والمبادئ مثل: التعاون، وأهمية دور الأسرة، وهي قيم موجودة في إيطاليا أيضاً، وفي معظم دول حوض المتوسط ولو بدرجات متفاوتة.
بالعودة للكتاب، نجد أن ميرلو رصدت 10 مبادئ تعكسها مقولات وأمثلة شعبية، من بينها: التعبير الدارج "الجيش قالك اتصرف"؛ إذ خصصت له باباً تحدثت فيه عن قدرة المصريين على التحايل على الظروف الصعبة، وأيضاً نجد المثل القائل: "لقمة هنية تكفّي ميّه"، وعنه، سردت تجاربها مع التكافل في شهر رمضان، والتعاون الذي عايشته في المواصلات العامة.
لم يغب النيل أيضاً عن فصول الكتاب، فحمل أول فصل عنوان: "اللي يشرب من مياه النيل لازم يرجع لها"، حيث ركّزت ميرلو على الطاقة والسكون اللذين يشعان من النيل، ومدى ارتباطهما به. ومن مدينة دهب وواحة سيوة استلهمت معاني الهدوء والسلام، فخصصت فصلاً عن هذين المكانين تحت عنوان: "في التأني السلامة وفي العجلة الندامة"، واختتمت الكتاب بالحديث عن معاني الحب في مصر، واستعارت عنوان هذا الفصل من أحد تعبيرات السينما الشهيرة، فسمّته "الحب ولع في الدرة".
في الأخير، ترى ميرلو أن نظرتها عن مصر تطورت بعد الكتاب، الذي مضى على تأليفه نحو أربع سنوات، وربما أصبحت ترى الأمور بصورة مختلفة نسبياً، لكنها تعتقد أيضاً أن الكتاب لا يزال يمثل مشاعرها الحقيقية حيال مصر، ويعدّ دعوة لزيارتها، لا سيما من قبل كل مواطن إيطالي مهتم باللغة العربية، أو بالشرق الأوسط.
ميرلو أثناء تكريمها من القنصل الإيطالي في الإسكندرية ماريو دي بسكوالي
وفي تشرين الأول (نوفمبر) الفائت، كرمت القنصلية الفخرية الإيطالية في الإسكندرية فيرونيكا ميرلو، التي تعيش الآن في القاهرة؛ حيث تدرس اللغة العربية واللهجة المصرية، ضمن برنامج كاسا CASA المخصص للطلاب الأجانب في الجامعة الأميركية بالقاهرة.
ولا تكف فيرونيكا عن الترحال في أنحاء مصر كافة، والاشتراك أيضاً في الأنشطة التطوعية، آخرها المشاركة في إعداد وجبات الإفطار الخيرية في شهر رمضان بالإسكندرية. وتطمح الآن إلى تأليف كتابين آخرين، أحدهما عن تجربتها في مدينة دهب، والثاني عن تعمقها في دراسة اللغة العربية في مصر.
وفي ختام حديثها تعرب عن أمنيتها بالعيش في مصر للأبد، وهنا تستدعي مقولة نجيب محفوظ التي اختتمت بها كتابها أيضاً؛ إذ يقول في إحدى رواياته: "وطن المرء ليس مكان ولادته، ولكنه المكان الذي تنتهي فيه محاولاته للهروب".