قبل أيام قليلة اهتز الرأي العام المصري بعد الكشف عن جريمة مروعة عرفت إعلامياً بحادثة "طفل شبرا"، كان ضحيتها فتى في الخامسة عشرة من عمره تعرض لإزهاق روحه وتفريغ أحشائه ووضعها في كيس بجواره، وتم تصوير المشاهد البشعة عبر تقنية "فيديو كول". التفاصيل التي أماطت النيابة العامة المصرية اللثام عنها خلال تحقيقاتها، أظهرت أن الجريمة التي وقعت في إحدى الشقق السكنية بمنطقة شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية، لا تتعلق بالإتجار بالأعضاء البشرية كما ساد الانطباع أول الأمر.
وكشفت النيابة في بيان رسمي أن الدافع وراء الجريمة التي حرض عليها طفل مصري مقيم بالكويت شخصاً آخر (المتهم بالقتل) بعدما تعارفا عبر الإنترنت، هو "الاحتفاظ بالمقاطع المرئية لواقعة قتل الطفل المجني عليه والتمثيل بجثمانه، وذلك حتى تسنح له فرصة بيعها ونشرها عبر المواقع الإلكترونية التي تبثها مقابل مبالغ مالية طائلة". وذكر البيان أمراً آخر يستحق التوقف، وهو أن الفتى المتهم بالتحريض "قرر أنه سبق وأن قام بهذا الفعل في مراتٍ سابقة".
"مواقع الصدمة"
المواقع التي أشار إليها بيان النيابة المصرية ليست معروفة في مصر والمنطقة العربية، حتى بالنسبة لمتخصصين في أمن المعلومات والجرائم الإلكترونية، فهي تنشأ وتنشط في بلدان أخرى خارج المنطقة. ويطلق على تلك المنصات "مواقع الصدمة" (Shock sites)، وهي عبارة عن صفحات إلكترونية مليئة بمقاطع فيديو لجرائم وحوادث حقيقية تثير الصدمة والرعب، منها ما وقع عمداً وتم تصويره كما جرى في جريمة "طفل شبرا"، ومنها ما التقط إبان صراعات أو حروب، وثمة ما التقط صدفة أو من خلال كاميرات المراقبة.
وقد يصادفك على تلك المنصات مقطع فيديو لشخص يُضرب بمطرقة حديدية حتى الموت، أو آخر يضرب بأداة معدنية فتخترق رأسه وتستقر فيه، أو مشاهد لطيور وحيوانات يتم سلخ جلدها حية، وغير ذلك من عمليات القتل والتعذيب والممارسات الجنسية العنيفة وغير السوية.
و"مواقع الصدمة" هي مواقع المقصود منها أن تكون "مسيئة ومزعجة لمشاهديها" حسبما تعرفها موسوعة "ويكيبيديا"، وثمة زبائن لها، بعضهم يدفع أموالاً كثيرة كي يشاهد محتواها الرهيب. وفي بعض المنصات التي زارها "النهار العربي" ثمة مقاطع فيديو شوهدت مئات آلاف المرات، وبعضها تجاوز المليون مشاهدة. وتعرض بعض المقاطع مجاناً، لكن المقاطع الأكثر ترويعاً وإثارة للغثيان تخصص في الغالب للمشتركين الذين يدفعون مبالغ مالية.
تفسير نفسي
ويقول استشاري الصحة النفسية الدكتور جمال فرويز لـ"النهار العربي": "ثمة شخصيات سادية، تتلذذ بتعذيب الآخرين، سواء تعذيباً نفسياً أو معنوياً، فتجد أحدهم يتلذذ بسبّ شخص آخر، أو طعنه، أو شق بطنه وما إلى ذلك".
ويشير إلى أن "السبب في هذا السلوك هو أن الشخص المتلذذ بالتنكيل بغيره أو قتله لديه حرمان عاطفي، والعاطفة هي عنصر مهم لكل إنسان. هذا الحرمان يحدث للشخص في الفترة العمرية من 4 أعوام إلى 14 عاماً، فقد يكون الأب غير موجود، أو يكون موجوداً ولكنه لا يحيطه باهتمامه وحبه، أو قد يكون قاسياً وعنيفاً في تعامله معه".
ويضيف فرويز: "قد يكون فقدان الأم أو عدم اهتمامها بطفلها سبباً آخر في الحرمان العاطفي. ويقوم الشخص الذي يعاني ذلك الحرمان بعملية تعويضية، مثل إيذاء الآخرين حتى يشعر باللذة. والحرمان العاطفي يتسبب في الكثير من الاضطرابات النفسية المعروفة، مثل السادية التي نتحدث عنها الآن، أو المازوخية، أو داء السرقة، وغيرها من الاضطرابات".
"الدارك ويب"
من أشهر "مواقع الصدمة" منصة "Ogrish"، وكذلك "Liveleak" التي أنشأها مؤسسو الأولى بعد تزايد حظرها في دول أوروبية، وقد تم إغلاق كليهما قبل سنوات، بسبب انتهاكاتهما ونشرهما مقاطع تتضمن إهانات عرقية، وبث المشاهد دون الحصول على إذن أسر الضحايا، لكن بعد إغلاقهما، ظهرت منصات أخرى بديلة لهما على الإنترنت.
ومع أن تلك المواقع يمكن الدخول إليها عبر المتصفح العادي، إلا أن "الدارك ويب" يلعب دوراً حيوياً في تغذية هذه المنصات بالمحتوى المروع، فهذه المساحة غير المرئية من الإنترنت تعد سوقاً رائحة للتجارة والأنشطة غير المشروعة في مجالات إجرامية عدة، ومنها بيع مقاطع الفيديو لعمليات القتل والتعذيب.
ويقول خبير في أمن المعلومات - طلب عدم ذكر اسمه - في حديث لـ"النهار العربي": "في السنوات الأخيرة بات الدخول إلى "الدارك ويب" أكثر سهولة نسبياً، ما ساهم في نشاط هذه السوق غير المشروعة، وخصوصاً في الدول الغربية التي لديها قواعد لحماية الخصوصية والحرية الشخصية".
ويضيف الخبير الذي عمل لسنوات ضابطاً بأحد أجهزة الأمن المصرية: "في الماضي كان الدخول إلى "الدارك ويب" صعباً جداً، ويحتاج لخبرات تقنية عالية، لكنه الآن أصبح أسهل في استخدامه للزائرين، كما صارت المعاملات فيه أكثر يسراً مما سبق".
ويرجع الخبير نشاط المعاملات وسهولتها إلى "توافر العملات الرقمية، التي يسرت الدفع دون الكشف عن هوية المتعاملين"، لافتاً إلى أنه "بات من الممكن أن يدخل الشخص لشراء المخدرات أو إجراء أي معاملة غير مشروعة ويدفع المقابل بالعملات الرقمية".
لكنه لفت إلى أنه رغم تقيد البلدان الغربية بمسألة الخصوصية والحريات الشخصية، إلا أن "ثمة جهوداً ملحوظة في بعض البلدان الأوروبية لمكافحة جرائم "الدارك ويب"، فمثلا الشرطة الألمانية أغلقت عدداً من المواقع غير المشروعة، أخيراً، وقامت منظمة "اليوروبول" بعملية واسعة ضد "الدارك ويب"، أخيراً، اعتقلت خلالها قرابة 800 شخص".
وقال الضابط السابق إنه "لم يصادفني خلال عملي لسنوات في مجال أمن المعلومات هذا النوع من مقاطع الفيديو البشعة للقتل والتمثيل بجثث الضحايا، فقط كنت أراها في الأفلام السينمائية، وكنت أتتبع في "الدارك ويب" عمليات الإتجار بالبشر، والمخدرات، والإرهاب، لكن حادثة "طفل شبرا" تبدو غريبة بالنسبة لي".