قبل نحو عامين من اليوم نشر "النهار العربي" قصة عبد الكريم. كان السودان "غَيْر" على مأسوية أحواله، وكانت حال هذا الشاب السوداني اللاجئ مختلفة كذلك. ما كانت الحرب الأهلية الوحشية كما اليوم، وما كانت الفاشر، عاصمة ولاية شمال إقليم دارفور، وآخر مساحات الأمان، مهددة بـ"الويل والثبور وعظائم الأمور".
عام 2022 حكى عبد الكريم عن حاضره في بيروت، وعن ذكريات ماضيه المتفاعل. كانوا أربعة أفراد في عائلة صغيرة في دارفور... وبقي وحيداً. صُور المأساة لا تفارقه، بقيت لصيقةً به على درب اللجوء من "جهنم" السودان - وفق وصفه - إلى "ما ليس أفضل بكثير"، أي إلى بيروت، ولكنه كان لا يزال متمسكاً بالأمل "خياراً أبدياً"... لكن، هل من مكان بعد للأمل؟
خسر عبد الكريم سابقاً أفراد عائلته الصغيرة، وبقي على قيد الحياة بعض من عائلته الكبيرة. اليوم خسرهم. خسر الكل، خسر آخر أبناء شجرة العائلة، بل وخسر الجزء الأكبر من صحته، المتعبة بالأساس على دروب الهجرة غير الشرعية "قانوناً"، الشرعية وأكثر "إنسانياً"، برأيه؛ فالهرب من الموت المُحتّم "شرعي" والهجرة منه "شرعية". الهرب من الجنجويد وارتكاباتهم "شرعي" والهجرة منه شرعية... "فما أدراك ما دارفور"، كما يقول لـ"النهار العربي".
عاصمة دارفور... تحبس أنفاسها الآن.
معارك الجيش السوداني وقوات الدعم السريع اليوم تُهدد حتى منطقة الفاشر في دارفور. أبناء الفاشر يتساءلون ما إذا كانت قوات الدعم السريع ستشن هجوماً واسع النطاق على المدينة أم لا، وتركيزهم ينصبّ على النجاة في معركة البقاء. الفاشر مدينة رئيسة شمال دارفور، تُعد عاصمة الإقليم. حتى اللحظة بقيت بعيدة عن أسوأ أعمال عنف وقتل عرقي وقعت في جميع أنحاء إقليم دارفور، معقل قوات الدعم السريع. إن كان من مساحة أمان بعد في دارفور، فهي تحت الحصار والتهديد اليوم، و"لا مجال للعودة إلى السودان"، يقول.
لنستعد القصة
عبد الكريم ضحية من ضحايا معارك دارفور. من سبق وسمع بالمنطقة هذه، تكوّنت لديه صورة أولى. هنا ماضي إبادة... وحاضر ألم. على مسافة قريبة من قشميط في الخريطة السودانية الشاسعة، قرى عدة: جروكو، برنقا، كيجو، مهموم وديرو. في الماضي، أحرقت القرى هذه، دُمرت على من فيها. وثّقت كاميرات العالم الإبادةَ الجماعية. كان عبد الكريم صغيراً يرعى الأغنام حين قتلت ميليشيا "الجنجاويد" أسرته. والده، أخوه وأخته، العديد من أهل أبيه وأمه قتلوا أو شردوا وهم بين مئات آلاف الضحايا. عبد الكريم نال وقتذاك حصته من العذاب؛ ضُرب بالسياط والعصي، رُبط بالحبال وسُحل أرضاً، كما يحكي لـ"النهار العربي". "من المعسكر أتيت إلى الخرطوم. هنا عملت في السوق وكسبت بعض المال، كما استطعت الاستحصال على هوية لي"، يقول.
من قشميط، إلى الخرطوم، فسوريا من طريق التهريب ولبنان. على المسار الطويل هذا استوقفه رجال الأمن أكثر من مرة، وثمة من سأله: "أنت صغير إلى أين تذهب؟"، فكان جوابه: "أذهب في زيارة". رحلة لجوء أبقت اللاجئ السوداني هذا وحيداً يواجه بما أمكن، بما تيسّر.
لا مجال للعودة
في بيروت عايش عبد الكريم وجهاً آخر من المأساة. عمله الشاق تسبب له بآلام أعاقت حركته. بقي مصراً على العمل. "لا خيار لدي. العمل مع الألم... أو الموت بلا لقمة خبز". خياره العمل، والعمل المتواصل. هذا ما قاله لـ"النهار العربي" قبل عامين. آلامه تضاعفت منذ ذلك الحين. خضع لعملية جراحية دقيقة، مع ديون متراكمة عليه، إلا أن أمله بقي معلقاً على قبول المنظمات الدولية له للهجرة "إلى أي مكان فيه أمن وحياة كريمة. في لبنان المعيشة صعبة جداً جداً"، يقول.
حاول مرة وثانية وثالثة فرفض طلبه وبقي بلا جواب "أنا مظلوم، مظلوم كثيراً - يقول - خسرت عائلتي في الإبادة الجماعية والحريق، واليوم خسرت ما تبقى من عائلتي الكبيرة، لم يبق لي أحد، وفي لبنان أموت كل يوم ألف مرة، من الوجع، صحياً ومعيشياً".
هجّر السودان أبناءه. من يبقى فيه، محكوم باعتبارات شخصية وخاصة. عبد الكريم هرب من مآسي بلاده إلى مآسي "بلد اللجوء" (لبنان). رغم ذلك هو يحاول أن يكسب كل يوم. "عقيدته" النضال مهما قست الحياة. رغم صعوبة ما يعايش، رغم الألم، يستغل وقت الفراغ بتعلم لغة جديدة، "لعلني أستطيع السفر إلى أميركا مثلاً". فهل يحصل على جواب من المنظمات الدولية؟ السؤال يطرحه كل يوم على نفسه... ويبقى متمسكاً بالأمل، وبحلمه بأن يُصبح "مبعوثاً للسلام معتمداً لدى منظمات الأمم المتحدة".