للمرة الأولى منذ بدء الحرب السودانية، تشهد ولايات إقليم كردفان تصعيداً عسكرياً واسعاً، مع شن الجيش هجمات تستهدف تحييد الطرق الرئيسية واستعادة مواقع حيوية من قبضة قوات الدعم السريع التي تمكنت من صد التقدم في بعض المواقع، مع سقوط قيادات ميدانية في المواجهات. على أن اللافت هو تسخين هذه الجبهة غداة اتفاق بين قيادة الجيش و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" المسيطرة على أجزاء من جنوب الإقليم، ما يعتبر تحولاً في موقف الطرفين.
فقد اندلعت في الأيام الماضية سلسلة مواجهات عنيفة في ولاية شمال كردفان، التي تسيطر قوات الدعم السريع على عدد من الطرق والمواقع الاستراتيجية فيها. وقالت مصادر ميدانية لـ"النهار العربي" إن قوات الجيش تمكنت من استعادة قاعدة عسكرية في جبل كردفان المطل على الطريق الحيوي الرابط بين شمال الإقليم وجنوبه وولاية النيل الأبيض، مضيفة أن قوات الفرقة الخامسة المعروفة بالهجانة تحركت من مدينة الأبيض، عاصمة الولاية، باتجاه المواقع الشرقية، لتتمكن من تحييد معسكر جبل العين، الذي يشرف على الأبيض، ثم الامتداد جنوباً وصولاً إلى معسكر قوات الاحتياطي المركزي.
مقتل قائد ميداني بارز
وأفاد ناشطون في المنطقة بأن قائداً للعمليات في قوات الدعم السريع يدعى عبد المنعم شيريا لقي مصرعه في الاشتباكات الأخيرة، ويعد المسؤول عن قيادة العمليات في شمال كردفان ويتمتع بثقل قبلي واسع، وهو ما يعتبر بمثابة ضربة معنوية للدعم.
إلى ذلك، ذكر ناشطون مقربون من الدعم السريع أنه تمكن من إحباط الهجوم باتجاه بلدة أم روابة، متحدثين عن أسر المئات من عناصر القوات المسلحة ووقوع ما يقارب 900 شخص قتلى في الاشتباكات في محور جبل كردفان، وكذلك في بلدتي تندلي وأم روابة لوصول المعارك حتى إلى داخل أحياء مدينة الأبيض ذاتها، وهو ما أقرت به مصادر ميدانية، لا سيما في أم روابة، لافتة إلى غياب الإسناد الجوي للمرة الأولى، ما سهل عمليات الالتفاف ونصب الكمائن من قبل الدعم السريع وأدى إلى خسائر واسعة في صفوف القوات المسلحة.
اتفاق كباشي والحلو
ويبدو لافتاً تزامن المعارك الأخيرة في إقليم كردفان مع الاتفاق المبرم بين مساعد القائد العام للجيش شمس الدين كباشي وقائد "الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال" عبد العزيز الحلو قبل أيام في جوبا، عاصمة جنوب السودان، إذ اتفق الطرفان في لقاء هو الأول من نوعه منذ بدء الحرب العام الماضي على إيصال المساعدات الإنسانية العاجلة إلى المدنيين في جنوب كردفان، حيث ينتشر عناصر الحلو وكذلك في مواقع سيطرة الحكومة في الولاية، التي يتقاسم السيطرة عليها الجيش والدعم السريع والحركة الشعبية.
وتقع الدلنج، وهي ثاني أكبر مدن جنوب كردفان، في قبضة الحلو الذي سبق أن هاجم عناصره مدينة كادوقلي عاصمة الولاية في آب (أغسطس) 2023، لكنها بقيت تحت سيطرة الجيش، بينما يسيطر الدعم السريع على أجزاء متاخمة لولاية شمال كردفان وعلى الطرق الواصلة إلى إقليم دارفور. وتعد "الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال" بمثابة الامتداد العسكري والسياسي للمجموعة ذاتها التي قادت الحرب ضد حكومة الخرطوم وصولاً إلى انفصال جنوب السودان في عام 2011، ورفضت التوقيع على اتفاق جوبا للسلام 2020، غير أنها قبلت بوقف إطلاق النار وبقي العديد من المواقع في جنوب كردفان تحت سيطرة الحركة، التي تسميها بالمناطق المحررة. كما شهدت قبل ذلك انشقاقاً في عام 2017 ليسيطر الحلو على جنوب كردفان، بينما انفصل عنه مالك عقار، مؤسساً "الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال" (الجبهة الثورية) في إقليم النيل الأزرق، أقصى الجنوب، قبل توقيعه اتفاق جوبا ثم تعيينه نائباً لرئيس مجلس السيادة في أيار (مايو) 2023.
الأهمية الاستراتيجية
على رغم إقراره بالخسائر البشرية التي تكبدها الجيش في هجومه الأخير شمال كردفان، يشدد الخبير الميداني محمد عادل على أهمية المعركة واستعادة القوات المسلحة ما يصفه بالموقع الحيوي في جبل كردفان، ويقول لـ"النهار العربي": "يشرف الجبل على قاعدة تدريبية وعلى الطرق الحيوية بين كردفان والنيل الأبيض، وهي خطوط إمداد رئيسية للدعم السريع، وبالسيطرة على هذه المواقع تتمكن الفرقة الخامسة والفرقة 18 في ولاية النيل الأبيض من تحقيق التحام ميداني يمهد لعمليات أوسع شمال كردفان تؤمن الصد بوجه القوات الآتية من شمال دارفور".
وفي حال تأمين الطرق من ولاية النيل الأبيض، وتحديداً من مدينة كوستي إلى شمال كردفان، بحسب عادل، فإن الإمدادات والذخيرة التي ستصل يمكنها أن تؤمن كسر الحصار على بلدات الولاية وصولاً إلى مطار الأبيض وحتى غرب كردفان، وبالتالي تعزيز التقدم بوقت لاحق باتجاه الجنوب، وهنا قد تلعب قوات الحركة الشعبية دوراً عسكرياً أكبر مما تم الاتفاق عليه بين كباشي والحلو على حد قوله.
أي دور سيلعبه الاتفاق مع عبد العزيز الحلو؟
يرى المتحدث الرسمي باسم "الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال" (الجبهة الثورية) سعد محمد عبد الله أن الاتفاق مع عبد العزيز الحلو خطوة مهمة على مسار الحل في البلاد، ويقول لـ"النهار العربي": "هذه الخطوة يجب أن تقرأها أعين مبصرة على صحائف الدولة الجديدة ومواقفها المعلنة سعياً لتحقيق السلام والاستقرار، أعتقد أن المجتمعات في جنوب كردفان تستحق الإغاثة العاجلة وإنارة الطريق للعبور نحو سودان السلام".
ويشدد على أن من الضروري الاستمرار في اتجاه القراءات الصحيحة للمشكلات الوطنية التاريخية والمعاصرة بحسب قوله، مضيفاً: "من الضروري تصويب الأبصار بعناية نحو إيجاد مقاربة واقعية لمعالجة أسباب حمل السلاح وتجسير عملية بناء سودان المستقبل، عبر وضع كل الأسلحة في خزائن مؤسسة واحدة لا شريك لها البتة، وهي القوات المسلحة السودانية المناط بها حمل السلاح حمايةً للوطن والشعب".