لا تخطئ العين الدور الذي تلعبه تيارات الإسلام السياسي بأطيافها المختلفة، حيث تجلت حالة الاستنفار في صفوف تلك التيارات، ولا سيما التيار السلفي، الذي عاد بعض رموزه مجدداً، بعدما تواروا عن الأنظار، أو تراجع حضورهم وتأثيرهم، خلال السنوات الأخيرة.
هذه الصورة المتجلية بوضوح هنا، لا تحجب مشهداً أكبر وأوسع، يبدو من خلاله أن غالبية الأصوات الغاضبة والمعبرة عن قلقها من المشروع الجديد، هم من عموم المصريين، بل إن بعضهم من المؤيدين والمتحمسين لتجديد الفكر الديني، ومن مناهضي حركات الإسلام السياسي، ومنهم من يعتبر نفسه مسلماً ليبرالياً.
تساؤلات جوهرية
الضجة أثارتها تعليقات ثنائية بين عضوي مجلس أمناء "تكوين" الكاتب السوري الدكتور فراس السواح، والروائي المصري الدكتور يوسف زيدان، خلال الندوة، إذ سأل الأخير السواح "من أهمّ؟ أنت أم طه حسين؟" ليجيب الباحث السوري: "أنا وأنت أهمّ"، وكذلك كان لظهور زجاجتي جعة (بيرة) في صور لمؤسسين في المشروع الجديد، وقع قوي. هذا كله أثار الكثير من التفاعل والرفض، وخصوصاً أن المؤسسة قُدمت للرأي العام على أنها مبادرة تنويرية، ودورها الرئيسي هو تطوير الفكر الديني.
ووسط هذا الضجيج المرتفع، والاتهامات المعتادة بالعمالة والتمويل الخارجي، غابت تساؤلات مهمة، ومنها: هل تنجح "تكوين" في هدفها المعلن بشأن تطوير الفكر الديني؟ وهل بإمكانها تفكيك الأفكار التي بثتها التيارات الدينية المتشددة في شرايين المجتمع المصري على مدار العقود الماضية؟ أم أن وجود "تكوين" سيعطي قبلة حياة للمتشددين ويعزز مكانتهم الاجتماعية؟ وهل تصبح المؤسسة موجة تستكمل جهود التنوير التي بدأت قبل نحو 200 عام في مصر؟ أم أنها سوف تعطي التيارات الأصولية ذخيرة وفيرة للقضاء على فكرة التنوير كاملة؟
بحسب التعريف الذي نشرته المؤسسة في منصتها الرسمية، فإنها "تعمل على تطوير خطاب التسامح، وفتح آفاق الحوار، والتحفيز على المراجعة النقدية، وطرح الأسئلة حول المسلّمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين".
شقان مهمان
من وجهة نظر أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة مونستر الألمانية الدكتور عاصم حفني، ثمة شقان يمثلان رأيه في "تكوين"، الشق الأول هو تعريف المؤسسة بنفسها، والمحتوى الذي بثته على موقعها الإلكتروني وصفحاتها بمنصات التواصل الاجتماعي، والآخر يتعلق بما شهده منتداها الأول، والشخصيات المؤسسة التي تبين أنها وراء إنشائها.
ويقول حفني الذي عمل أستاذاً في جامعة الأزهر لـ"النهار العربي": "بالنسبة للشق الأول، فإنني أراه جيداً، ويمثل خطوة في إثارة الفكر، وطرح جميع القضايا للنقاش بهدف تقديم صورة إيجابية عن الدين الإسلامي. تعريف المؤسسة بنفسها، والمحتوى الذي نشرته لا يتصادم مع الإسلام".
ويضيف أستاذ الدارسات الإسلامية: "من هذا المنظور، فأنا أشجع المؤسسة، وأؤيد كل مبادرة تلقي حجراً في المياه الراكدة، وأتفق مع هذا الجهد عامةً، حتى وإن اختلفت مع المنتج النهائي له. هذه الأفكار تثير العقل وتحفزه على التفكير، حتى يصل إلى صيغة متوازنة لعلاقة البشر بعضهم ببعض، وعلاقة الدين بالسياسة بصفة عامة، أو مفهوم الدين داخل الدولة الحديثة. هذا أمر محمود، لذا فأنا أشجع إنشاء أكثر من مؤسسة تنويرية، وهذا يفيد ولا يضر".
ويواصل حفني حديثه: "الأزهر أيضاً أصدر بعض المبادرات، ومنها مبادرة "بيان" (أطلقت عام 2019) لمواجهة الإلحاد، أو "الأفكار الهدامة" كما يسمونها. ما دامت تتم مواجهة الفكر بالفكر، فهذا أمر إيجابي".
ويعتقد الأستاذ في جامعة مونستر أن وجود أكثر من مؤسسة يفيد المجتمع، حتى لو قدمت أفكاراً مختلفة، ويقول: "هذا يفيد، خصوصاً أن المؤسسات الدينية الرسمية غالباً تكون مقيدة في طرح الأفكار الجديدة، لذا تعتمد الأفكار التقليدية. وجود مؤسسات لا تتقيد بالإطار المؤسسي (الرسمي) أمر مهم، ولا يخشى منه على ثوابت الدين الإسلامي".
أما بالنسبة للشق الثاني، وما يتعلق بالمنتدى الأول وما حدث فيه، خصوصاً مقارنة عضوي مجلس الأمناء نفسيهما بطه حسين، فيرى حفني أنه "أساء لفكرة التنوير، وفكرة طرح الأفكار للنقاش العام. وأتصور أن مجلس الأمناء ضم أسماءً لم تكن مختارة بعناية، وعليها علامات استفهام، أو على أقل تقدير لا تلقى قبولاً لدى الشعب المصري المتدين بطبعه، ولا أعرف القصد من ذلك".
ويستدرك: "بعض هذه الأسماء أثار الرأي العام، لأنه ارتبط في الذهنية المصرية بـ"محاربة الدين"، وسواء كان هذا صحيحاً أم لا، كان يجب أن يراعي القائمون على تشكيل المجلس التوازن في هذا الأمر، حتى تلقى المؤسسة قبولاً في الشارع المصري، لأنه ليس المطلوب هو أن تقدم أفكاراً تنويرية معزولة عن الواقع. إذا أردت أن تنير هذا الواقع، ينبغي أن تكون أفكارك مقبولة فيه".
الصّدمة والهدوء
يتفق السياسي والبرلماني المصري السابق محمد أبو حامد مع كثير مما ذهب إليه أستاذ الدراسات الإسلامية، ويقول لـ"النهار العربي": "لدي نقطتان، الأولى تتعلق بالدولة، فمصر بحكم دورها وحجمها في المنطقة العربية والإسلامية، لا بد أن يكون لها إسهام مهم ودائم في الفكر وتطويره، وفي الخطاب الديني وتطويره، خصوصاً أن لديها مؤسسات كبيرة وشخصيات لها ثقلها في هذين المجالين".
ويرى أبو حامد أن "ثمة العديد من الدول العربية بدأت تعمل في هذا المجال، ولا يصح أن يتراجع دور مصر التاريخي".
وبالنسبة للنقطة الثانية يقول: "أي مؤسسة أو كيان يعمل في مجال تطوير الفكر، وخصوصاً الديني، لا بد أن يواجه مقاومة من التيارات المحافظة الموجودة في المجتمع، وعدد كبير من المواطنين الذين يتبنون أفكاراً محافظة، سواء في مصر أو البلدان العربية والإسلامية".
ويضيف: "لهذا حين تنشأ مؤسسة وتقدمها للرأي العام والشعب، وتريد أن يكون لها تأثير في المواطنين، وليس في النخبة فحسب، لا بد أن تتجنب أسلوب الصدمة، لأن هذه الآلية تؤدي لإثارة الجدل، ما يحوّل القضية إلى صراع فكري بدلاً من جعلها دعوة للتطوير".
وبدلاً من أسلوب "الصدمة"، يقترح أبو حامد أن "يكون العمل في هذا المجال بأسلوب هادئ، وبحثي، وتراكمي، لأن الفكر المحافظ هو المسيطر على عموم المجتمع العربي والإسلامي. أسلوب الصدمة قد يدفع بعض أفراد النخبة للتفاعل معه، لكن آخرين من النخبة سيتجنبون هذا التفاعل كي لا يصطدموا بالمجتمع. كما أنه أسلوب لا يجتذب عموم المواطنين، وسيكون النفع منه محدوداً للغاية".
تغذية التّطرف
من جانبه، يرى الخبير في حركات الإسلام السياسي الدكتور عمرو عبد المنعم أن "تكوين" هو "كيان ولد مرتبكاً، ولد ليعزف خارج السرب، وخارج أوركسترا المشهد العام".
ويقول الخبير الحاصل على دكتوراه متخصصة في فكر الجماعات المتطرفة "هذا الطرح الذي تتبناه المؤسسة، ويعمل على غير المألوف في المجتمع المصري، هو الطرح نفسه الذي تتبناه جماعات الإسلام السياسي بشكل أو بآخر، فكلاهما طرح متطرف بصيغ متباينة".
ويعتقد عبد المنعم أن هذا "سوف يأتي بنتائج عكسية، ويفرز تشوّهات مجتمعية خطيرة"، معتبراً أن "معظم الشخصيات الموجودة في "تكوين" مختلف عليها، وبالتالي تعكس أداءً درامياً، أي أداءً تمثيلياً، أكثر منه فكرياً، وهو أداء غير محترف".
ويضيف: "المثقفون المصريون القدامى الذين تبنوا العلمانية كانوا جميعاً يحترمون الدين والسياق العام للمجتمع المصري، لكنّ مؤسّسي هذا الكيان الجديد بدأوا يضربون في رموز التيار التنويري (في إشارة للدكتور طه حسين)، كأنهم فوق هذا التيار".
هذا الخطاب، برأي عبد المنعم، "لا يعي طبيعة المجتمع المصري، وهو مجتمع ذكي جداً، وتديّنه ذكي وفطري، لذا فإن جميع المصريين على اختلاف مستوياتهم التعليمية والاجتماعية، يعون تماماً ما يمكن أن نسميه بخطاب العلمانية المتطرفة".
ويبوح الباحث برأيه في ما يقدمه معظم مؤسسي "تكوين" ويقول إن "خطابهم كان مستفزاً، وكأنهم يقولون للعامة كل ما تمتلكونه من ميراث فكري مشكوك فيه، وهذا ما فعلته تيارات الإسلام السياسي بصيغة مغايرة".
تفكيك خطاب الصحوة
أستاذ التاريخ الحديث والمؤرخ المصري الدكتور شريف يونس له وجهة نظر أخرى، خصوصاً في ما يتعلق بتأثير المنتج الفكري الذي تقدمه "تكوين" على الخطاب الذي أنتجته تيارات الإسلام السياسي ورسخته خلال ما يطلق عليه فترة "الصحوة الإسلامية".
ويقول يونس لـ"النهار العربي" إن "السخرية من الإعجاب الذاتي الذي أبداه كل من يوسف زيدان وفراس السواح، وكذلك الحديث عن "قلة عمق" خطاب الكاتب الصحافي إبراهيم عيسى، وهذا رأي أفصحت عنه من قبل، لا يمنع من الترحيب بقيام مؤسسة "تكوين" في حد ذاته".
ويرى المؤرخ المصري أن "قيام مؤسسة بإنتاج خطاب يفتت خطاب "الصحوة" المتهافت، هو في حد ذاته إنجاز. "الصحوة" قامت على مئات المؤسسات التي تلقت تمويلاً جباراً، ليس لدعم فكرها فحسب، بل أيضاً شمل مشروعات اقتصادية، وجمعيات أهلية. وحتى لو في النهاية المطاف، اتضح أن إنجاز "تكوين" محدود، سيكون أمراً جيداً، وبداية لقيام مؤسسات أخرى تطور، وتغير، وتنافس".