جمع السفير نبيل فهمي في جعبته خبرة دبلوماسية طويلة؛ من مواقع المسؤولية المختلفة التي شغلها تارة، وبعين الأكاديمي والخبير الضليع في الشؤون الدولية تارة أخرى؛ إذ شغل رأس الدبلوماسية المصرية خلال عام مضطرب (2013 - 2014). وفي سنوات الجفاء بين الولايات المتحدة ومصر كان سفيراً لبلاده في واشنطن بين عامي 1999 و2008؛ حيث أدار علاقات مرتبكة، وكان حينها كمن يمضي بحذر فوق خيط رفيع.
ولفهمي خبرة مقدرة دولياً في مجال الأمن القومي ونزع السلاح، ففي عام 2009 أصبح العميد المؤسس لكلية الشؤون الدولية والسياسات العامة في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وله كتابات عربية ودولية عدة بشؤون القضايا العامة.
من واقع هذه الخبرة الطويلة، وإمساكه بتفاصيل الملف الدبلوماسي، يتحدث فهمي لـ"النهار العربي" عن ملفات تشغل الدبلوماسية العربية هذه الأيّام، على رأسها الحرب في غزة، وانعكاساتها على السياسة الدولية، ومآلات الاحتجاجات وتأثيرها على القرار السياسي في الولايات المتحدة.
للسفير فهمي خبرة مقدرة دولياً في مجال الأمن القومي ونزع السلاح
علاقات الضرورة
تشهد العلاقات المصرية - الأميركية شداً وجذباً من آن إلى آخر، ويبدو أنها في المرحلة الحالية وفي ظل الحرب في غزة، تشهد تفاعلاً واضحاً للعيان. وعن طبيعة هذه العلاقة حتى هذه اللحظة، يقول السفير فهمي إن "لمصر وضعية خاصة؛ إذ إنها دولة تمتد عبر قارتي إفريقيا وآسيا، وتطل على البحرين المتوسط والأحمر، واقتصادها يرتبط بالاقتصاد العالمي، من منطلق دعوتها للاستثمار والتجارة الدولية لبناء الاقتصاد الوطني، فضلاً عن مرور التجارة عبر قناة السويس، وجذب السياحة، والانشغال في أسواق الطاقة، كما أن نسبة كبيرة من الغذاء المصري تُستورد من الخارج، إلى جانب أن نهر النيل يمر عبر عدد من الدول".
ويضيف: "من هذا المنطلق، فإن المصلحة المصرية المباشرة ترتبط بأوضاع داخلية وخارجية في الوقت نفسه، وما دام ثمة تفاعل مع المجتمع الدولي، فمن الطبيعي أن يكون التفاعل مع الدول والأسواق الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة".
ويواصل فهمي حديثه: "إذا قلبنا الآية، فسنجد مثلاً أن السياسة الخارجية الأميركية تمتد عبر قارات مختلفة، ومسافات مختلفة، وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط، وكل ما يرتبط به، سواء كان ذلك النزاع العربي الإسرائيلي أو غيره من القضايا، فمن الطبيعي أن يكون هناك تفاعلات أميركية مع الوضع المصري، نتيجة للوضع الإقليمي والاستراتيجي لمصر في المنطقة، فضلاً عن أنها تضمّ ربع سكان المنطقة".
ويستطرد: "العلاقات المصرية - الأميركية مهمة للطرفين، لكنها ليست علاقة مريحة لأي منهما، باعتبار أنه في أفضل الظروف، يمكن لكل طرف الاستفادة من الآخر، ومثال على ذلك، يمكن الإشارة لعملية السلام في الشرق الأوسط، كانت مهمة مصرية - أميركية عقب حرب 1973، واستكملت بدعم أميركي، وواصلت مصر هذا الجهد طوال عقود من الزمن، وكان هناك تباين في المواقف، وشكاوى أميركية - في غير محلها - عن أن مصر تنحاز دائماً، وعن غير حق للطرف الفلسطيني أكثر من اللازم".
ويلفت الدبلوماسي المصري إلى أنه "إذا توسعنا من هذه الجزئية إلى ساحات أخرى في المنطقة مثل ليبيا والسودان ومنطقة الخليج، سنجد أن هناك نقاط اتفاق واختلاف بين الجانبين المصري والأميركي، لذا فالعلاقة بين الطرفين مهمة، ويجب إدارتها بحكمة لتعظيم المكاسب، والحدّ من الخسائر لكل طرف، لا سيما في ظل اختلاف الأولويات لدى كليهما. وربما يكون سبب الخلاف بين مصر والولايات المتحدة أن لكل منهما دوراً ريادياً، فلم تعتد الولايات المتحدة تلقي توجيه أو فرض سياسات عليها من أي دولة، وكذلك الحال مع مصر التي ترفض أي إملاءات أو تدخلات، حتى في أصعب الظروف".
أما عن واقع العلاقات المصرية - الأميركية على خلفية الأحداث في غزة، فيصفه الدبلوماسي البارز بأنه أقرب لعملية معالجة أزمات؛ إذ إن هناك توافقاً أحياناً بين الطرفين، مثل تجنب التصعيد في رفح، بينما تتمثل نقاط التباين في عدم ارتياح الجانب المصري للتأييد الأميركي المبالغ فيه لإسرائيل. أما الإفراج عن الرهائن ووقف إطلاق النار، فيعد موقفاً مشتركاً بين كليهما، لكن ثمّة خلاف في التفاصيل، إذ تريد مصر وقف إطلاق نار دائماً تحت أي مسمى، وانسحاب القوات الإسرائيلية.
ويرى فهمي أنه "لن يكون هناك حرب أو سلام في المنطقة من دون مصر، وكذلك الدور الأميركي مهم، لكن ليس من المفيد أو الملائم أن تعطى الريادة في عملية السلام للولايات المتحدة وحدها، لانحيازها المبالغ فيه لإسرائيل، إذ يجب إشراك الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وممثل للأمم المتحدة، لخلق حالة أفضل من التوازن وتأمين الشرعية الدولية والتوازن، مما يؤمن مصلحة الجميع ويخفف من حدة الاعتبارات الداخلية على الإدارة الأميركية".
أميركا والبحث عن الذات
مع تنامي الاحتجاجات المتزايدة في الشارع الأميركي حيال الحرب في غزة، يرى فهمي أن المستوى السياسي الرسمي لا يزال يميل لصالح ما يعرف بـ"التأييد لإسرائيل"، في مقابل "تأييد الحق الفلسطيني"، لكن الجديد في الأمر أن الرأي العام العالمي، وحتى في الولايات المتحدة بات غاضباً من الوحشية الإسرائيلية، ورافضاً الانحياز الأميركي لإسرائيل، وعدم اتخاذ مواقف فاعلة ومؤثرة لوقف تلك المذابح.
يقول الوزير السابق إن "هذا الصعود الشعبي الأميركي - في الشارع والجامعات - لا يزال في مرحلة التكوين، وإنما أهميته في أن بعض الولايات الأميركية تتميز ديموغرافيا بغلبة الشباب والتقدميين الأميركيين، بمن فيهم اليهود، إلى جانب أصحاب الأصول العربية والإسلامية، ومن ثم قد يكون لهذا أهمية خاصة في ترجيح الأغلبية في المجمع الانتخابي الأميركي والذي يحسم نتيجة الانتخابات".
ويعتقد فهمي أن "تأثير الحراك الذي تشهده الولايات المتحدة سيكون تراكمياً، إضافة إلى أن ما نراه الآن من تنام في الموقف الشعبي ضد ازدواجية المعايير التي تتبناها الإدارة الأميركية وتخاذلها في التعامل مع الممارسات الإسرائيلية، قد يؤثر في المرحلة الحالية على نتائج المجمع الانتخابي لبعض الولايات الهامة في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة".
ويضيف أن "ضغوط الرأي العام تخلق حالة من ضغط المصداقية على المرشحين الحاليين، وتولد زخماً سياسياً تجاه مرشحين جدد في المستقبل"، لافتاً إلى أن "الانتخابات الأميركية المقبلة هي منافسة بين من يخسر الانتخابات، وليس بين من يفوز بها، بمعنى أن احتمالية خسارة (الرئيس السابق دونالد) ترامب للانتخابات كبيرة نتيجة مشاكله القضائية وحدته في التعامل مع القضايا والأفراد، في حين أن (الرئيس الأميركي جو) بايدن قد يخسر الانتخابات أيضاً نتيجة رفض التيار التقدمي لازدواجية معاييره، وبسبب تحفظ عدد من الأميركيين على وضعه الصحي".
ويرى فهمي أن "أميركا حالياً في مرحلة بحث عن الذات، وخصوصاً أنها أمام مرشحَين كلاهما غير محبوب، وكلاهما سيكون مرشح الولاية الرئاسية الواحدة؛ إذ لا يسمح لأي رئيس أميركي بتولي المنصب أكثر من ولايتين حتى إذا لم تكونا متواصلتين".
تطرف إسرائيلي
رغم الانحياز الواضح لإسرائيل من قبل الإدارة الأميركية، إلا أن ثمّة ضغوطاً تمارسها أخيراً بغية تخفيف حدة العمليات العسكرية، والتوصل لاتفاق هدنة. وعن الاعتبارات التي تحدد السلوك الأميركي في التعامل مع حرب غزة، يقول السفير فهمي إن "أميركا لديها ثلاثة اعتبارات في هذا الشأن. أولاً: تؤيد المصالح الإسرائيلية، ولا تريد الحياد عن ذلك. ثانياً: لا تستطيع تقبل الوحشية الإسرائيلية، نتيجة ما يثيره ذلك من إزعاج شديد في الساحات الشعبية الأميركية والأوروبية، وخصوصاً أن الإدارة الحالية على مشارف انتخابات. ثالثاً: تخشى أميركا من أن التجاوزات الإسرائيلية سيكون لها انعكاس سلبي على اتفاقات السلام في مصر والأردن، على اعتبار أن هاتين الاتفاقيتين يعدان الإنجاز الأميركي الأهم في المنطقة".
ويرى الدبلوماسي المصري أن "رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والمتشددين في حكومته لا يريدون التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بأي شكل من الأشكال، ويفضلون استمرار النزاع، لأن ذلك يوفر للحكومة الحالية دعماً شعبياً، وباعتبار أن وقف الحرب قد يؤدي لمحاسبة قضائية لرئيس الوزراء وإجراء انتخابات"، ويتابع: "حتى وإن رضخت الحكومة الإسرائيلية لضغوط الإدارة الأميركية، وخففت من حدة الحرب، أو وافقت على اتفاق هدنة مؤقت لتبادل الأسرى، ستحافظ على إطالة أمد النزاع الحالي بأي صورة".
ويضيف أن "الفارق بين اليمين والوسط في إسرائيل هو فارق تكتيكي بالأساس، وليس جوهرياً، فالأشخاص الأكثر وسطية في الحكومة الإسرائيلية، قد يختلفون مع ممثلي اليمين بعض الشيء، لكنهم أيضاً يبنون مواقفهم على استمرار حصار إسرائيل لقطاع غزة، بالحفاظ على اليد العليا الأمنية الإسرائيلية في القطاع، حتى لو تنازل الوسط بعض الشيء عن الإدارة اليومية لغزة، ومن المستحيل أن تجد أطرافاً عربية تتعاون مع هذا الشكل من الحصار والاحتلال".
إعمار ومحاسبة
ويتابع: "لا تزال القاهرة تسعى في التوسط للوصول لاتفاق هدنة ووقف الحرب وتبادل الأسرى، فسعي مصر للسلام لم يتغير، لكن هذا المستوى من الإجرام والمخالفات الإسرائيلية للارتباطات الثنائية مع مصر، دفع إلى توتر العلاقات بين البلدين، والحدة المصرية لها ما يبررها، ولا أستبعد تصاعدها إذا اقتضت الظروف أكثر من ذلك".
ومع تأزم الوضع في قطاع غزة، يشير وزير الخارجية المصري الأسبق إلى أن "الأوضاع على الأرض في غزة تجاوزت تماماً مرحلة الإدانة والشجب والمطالبة، ومن الواضح أيضاً أن المجتمع الدولي غير قادر أو راغب في تحمل مسؤولية الأزمة، ووضعها على طريق الحل. في ضوء هذا الوضع، يجب على العرب الإعلان عن إجراءات على المستوى الثنائي، وطرح حلول ومبادرات على مستوى النزاع".
ويقول فهمي إنه "يجب أن يطرح العرب مطالبات محددة في مختلف المحافل الدولية، والتحرك وفق ثلاثة محاور: قانوني وإنساني، ثم وطني، وأخيراً سياسي، وذلك للتصدي للمخالفات الإسرائيلية، بما فيها محاسبة المسؤول عمّا يجري الآن. وكما أنه لا يمكن الاكتفاء بمطالبة المجتمع الدولي بإجراءات، يجب اتخاذ خطوات حيال هذه المحاور على المستوى العربي فرادى وجماعة؛ لأننا لا نستطيع التحرك بمعزل عن العالم، ولم يعد بالإمكان أيضاً اعتماد العرب على الغير فقط".
ملفات مشتعلة
إلى جانب الحرب في قطاع غزة شرقاً، تشتعل الحدود المصرية الجنوبية في السودان الذي يشهد صراعاً دامياً، وفي الغرب تعيش ليبيا انقساماً سياسياً وصل إلى ذروته، وفي هذا الصدد يبدي السفير فهمي قلقه حيال ما يجري في البلدين، معتبراً أن ما يحدث في كليهما صراع سلطة على حساب وحدة المؤسسات الرسمية.
ويقول: "لا أرى حلاً في الأزمة السودانية إلا بحوار وطني بين كل الأطراف، ليس فقط المتحاربين، لكن أيضاً لا بد من إشراك الطرف الشعبي، للوصول إلى توافق المصالح واحترام مؤسسات الدولة الواحدة، لكنني لست متفائلاً في الوقت الحالي بإمكانية تحقيق هذا الأمر".
وفي ما يتعلق بدور الأطراف الخارجية في أزمتي ليبيا والسودان، يرى فهمي ضرورة أن يكون هناك تشاور عربي -عربي بشأن الأوضاع في السودان، بغية إيجاد وسيلة للحوار بين الأطراف المختلفة، تمهيداً لحراك سياسي سوداني نحو الوصول إلى توافق، وبدون التوافق الإقليمي العربي - العربي لن تنجح مساعي تسوية الأوضاع في السودان، وإن كان القرار في النهاية هو سوداني - سوداني.
أمّا عن الوضع المعقد في ليبيا، يعتقد السفير فهمي أن "ثمّة اعتبارات خارجية وداخلية ليبية، جميعها لها تأثير مباشر في هذه المسألة، إذ إن المشكلة بالأساس ليبية - ليبية، لكن أيضاً هناك تدخلات إقليمية ودولية تنعكس ليس فقط على ليبيا، وإنما كذلك علي دول الجوار شرقاً وغرباً وجنوباً، كما يرتبط بها مواقف دول إقليمية مثل تركيا، إلى جانب التنافس الغربي الروسي"، مشيراً إلى أن "كل هذه الاعتبارات تجعل من الصعوبة بمكان التوصل إلى حل. ومطلوب هنا أيضا حوار دولي، وآخر إقليمي عربي، تمهيداً لدفع الأطراف الليبية نحو توفيق مصالحهم".
ويعتقد فهمي أن الدور المصري - التركي يمكن أن يقرب الوضع من التوافق، وإن كان الأمر صعباً، وفي هذا السياق يقول إن "التنافس الإقليمي مشروع بين دول مثل مصر وتركيا، أو بين مصر وإيران، لكن لن يوجد استقرار في المنطقة إلا بخلق القنوات اللازمة لتأمين هذا التنافس المشروع، إذ إن التنازع بين هذه الدول الثلاث يؤثر على مصالحهم المباشرة، فضلاً عن تضرر الكثير من دول المنطقة".
ويختتم حديثه بأنه "من المهم الإشارة إلى أن النشاط الإيراني في الخليج أو المشرق يؤثر على العلاقة مع مصر، وكذلك الحال مع النشاط التركي في ليبيا"، قائلاً: "أؤيد الحوار المصري مع إيران، وأعتقد أنه جاء متأخراً، وآمل أن يكلل بالمصارحة الواضحة بين جميع الأطراف، فلا يجب طيّ صفحة الماضي من دون مكاشفة".