خرجت أكبر مصفاة للنفط في السودان من الخدمة إثر تعرضها لقصف عنيف من الجيش السوداني الذي استهدف تمركز "قوات الدعم السريع" شمال مدينة بحري على بعد 70 كيلومتراً من العاصمة الخرطوم. وأدى القصف إلى أضرار كبيرة في مباني مصفاة الجيلي وخزانات الوقود، علاوة على الأثر البيئي الخطير في محيط المصفاة، وسط توقعات بعودة السخونة إلى المواجهات في محيط المصفاة التي كانت نقطة ارتكاز لشن الهجمات شمال الخرطوم.
"ميليشيات باسم الجيش"
واتهمت "قوات الدعم السريع" القوات النظامية بتدمير المصفاة بالكامل، بحسب بيان صادر عنها، ووصفت ما جرى بأنه "عمل إرهابي بامتياز يخالف القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، ويكشف مدى الإحباط واليأس الذي وصلت إليه هذه الميليشيات الإرهابية التي تختبئ تحت اسم الجيش".
وتداول ناشطون مقاطع مصورة تظهر تصاعد ألسنة اللهب جراء قصف المصفاة، مع لقطات تظهر حجم الدمار الذي تعرضت له المنطقة، فيما أكدت مصادر ميدانية لـ"النهار العربي" أن القصف أصاب محطة الرويان الفرعية، وخطوط الوقود الخارجة منها، بالإضافة إلى مستودعات كبرى في محيط المبنى، من دون أن تتعرض المصفاة بحد ذاتها لأذى.
ولفتت المصادر إلى أن الموقع الحيوي يضم مصنعاً للبتروكيماويات، ومحطات لتوليد الكهرباء، ومركزاً للتحكم بمولدات الطاقة، بالإضافة إلى استقباله خطوط الإمداد من ولايات جنوب كردفان وغربها حيث تقع معظم حقول البترول.
ولم تؤكد المصادر استهداف المصنع الحربي المجاور في منطقة جبل جاري، حيث دارت اشتباكات عنيفة قبل شهر دفعت الجيش والحركات المسلحة إلى تشديد الحصار على الموقع كاملاً من دون التمكن من اقتحامه، فيما قام عناصر الدعم بعملية التفاف على القوات المحاصرة أسفرت عن خسائر كبرى، آخرها حدث قبل أيام، وأدى إلى مصرع المئات من عناصر الجيش، بالإضافة إلى وقوع العشرات أسرى كمائن للدعم، بالإضافة إلى تدمير كميات كبرى من العتاد الحربي، وسط استياء عارم في أوساط الموالين للجيش، ما يثير الأسئلة إن كان هجوم القوات النظامية على المصفاة بمثابة رد فعل انتقامي من الضربة الأخيرة التي تلقاها.
"ستاتيكو ميداني"
وبدأت المصفاة عملها قبل 25 عاماً بشراكة صينية - سودانية، وهي تستقبل أنابيب النفط من حقول جنوب كردفان وغربها، وبخاصة من حقل بليلة، قبل أن يمتد منها خط التصدير الخاص إلى ميناء بشاير في بورتسودان. وقد سارعت "قوات الدعم" للسيطرة على الموقع منذ الأسابيع الأولى للحرب العام الفائت، وسبق للجيش أن شن ضربات استهدفت مستودعات فرعية للوقود وسط تبادل مستمر للاتهامات بتعطيل عمل المصفاة.
وقبل شهر شن الجيش هجوماً كبيراً لتعزيز مواقعه شمالاً بهدف إمداد معسكر الكدرو الواقع جنوب المصفاة وربطه بجسر الحلفايا في أم درمان، وهو ما اعتبرته مصادر ميدانية في حينه الخطوة الأولى لاستعادة الخرطوم بحري، خصوصاً أن تمركز الدعم هناك يؤهله لشن الهجمات على ولايتي نهر النيل المجاورة شرقاً والشمالية كذلك. غير أن العملية العسكرية تعرضت لمطبات عديدة، بحسب المصادر، أبرزها المدد المستمر للدعم السريع من شرق النيل الأزرق، وتكرار عمليات الفزع والالتفافات التي يقوم بها عناصره على متحركات وأرتال الجيش، ما أدى إلى تجميد القتال ومن ثم تراجع الجيش، واصفة الوضع الحالي بـ"الستاتيكو الميداني".
الخسارة الاقتصادية الكبرى
يعتبر الباحث الاقتصادي عبد الهادي محمود أن الدمار الذي لحق بالمصفاة ستكون له تبعات اقتصادية شديدة الخطورة في المستقبل القريب. ويقول لـ"النهار العربي": "يمكن تقدير حجم الخسائر بالمليارات، فالسودان اليوم دخل في أزمة وقود خانقة ستدفع الحكومة إلى مزيد من الاستيراد وسط تراجع في إيرادات الدولة ومزيد من الاستنزاف للعملات الأجنبية، هذا غير حسابات الحرب والمواجهات الميدانية وتكاليف إعادة الإعمار والصيانة، ما يعني مزيداً من التدهور الاقتصادي".
ووفقاً لأرقام يذكرها عبد الهادي، فإن المصفاة كانت ذات طاقة استيعابية قبل الحرب تصل إلى حوالي 100 ألف برميل يومياً، وهي بذلك تؤمن حاجة السودان من الوقود بنسبة 60% وبنسبة 50% من الغاز المنزلي. ويشرح الواقع القائم بقوله: "يشكل النفط المورد الأساسي للدخل القومي السوداني قبل انفصال جنوب السودان وبعده، غير أن الحرب أثرت على إنتاج المصفاة أولاً، وتعرض، ثانياً، خط الأنابيب الرئيسي من أعالي النيل في الجنوب إلى بورتسودان، لاستهدافات متكررة أدت إلى تعطل المرور، وهو ما كان يضيف للخزينة موارد إضافية، إذ يضخ جنوب السودان 150 ألف برميل يومياً تتقاضى عليها حكومة الخرطوم رسوماً إضافية".
لا أحد يتحدث عن البيئة المتضررة
وبعيداً عن المشهد الميداني والدمار الكبير الذي أصاب الاقتصاد، يحذر الناشط البيئي طارق إبراهيم من كارثة بيئية قد تؤدي إلى مخاطر صحية لا أحد يلتفت لها، بحسب قوله. ويقول لـ"النهار العربي": "لا يمكن تجاهل الأبخرة المتصاعدة من احتراق الوقود وانفجار المستودعات في المصفاة وتلوث الهواء إثر ذلك، وهي علمياً أبخرة مسرطنة ستقود في المستقبل إلى تسجيل معدلات إصابة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي عالية، يتشابه مع الوضع الحاصل في العراق وشرق سوريا حين تم تكرير النفط بحراقات بدائية أسفرت عن انتشار أبخرة مسرطنة".
ويحذر إبراهيم من دمار أوسع إذا تعرضت مصانع البتروكيماويات والغاز لمزيد من الاستهدافات والحروب، ذلك أنها تضم مواد كيماوية شديدة الخطورة وتتطلب شروطاً عالية للتخزين لن تتوافر في حالات الحرب.