في روايته الأبرز "قنديل أم هاشم" تناول الأديب المصري يحيى حقي كيف يمكن للممارسات الشعبية أن تتحول إلى "مقدس" لا يمكن الاقتراب منه. فزيت القنديل الذي تضاء به مصابيح مسجد السيدة زينب، يستخدم لعلاج العيون، ويرفض الناس الاستماع إلى نصائح "الدكتور إسماعيل" الذي درس طب العيون في ألمانيا، ويتهمونه بالتشكيك في معتقداتهم الدينية.
بعد عقود من الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي، تراجع الناس عن تصديق الكثير من الخرافات المشابهة، فعلى سبيل المثال بات ختان الفتيات مجرّماً قانوناً ومرفوض مجتمعياً ودينياً، والوصفات الشعبية التي كانت شائعة في المجتمعات الصحراوية، وقدمها بعض رجال الدين على أنها "طب نبوي"، لم يعد معمولاً بها، بل إن الدعاة المتشددين الذين لا يزالون يدافعون عن هذه الممارسات باعتبارها سنّة نبوية ثابتة، يلجأون إلى الطب الحديث لتلقي العلاج.
ويقول أستاذ علم الاجتماع بالجامعة المصرية - اليابانية الدكتور سعيد صادق لـ"النهار العربي": "استطاع العلم التجريبي أن يثبت خطورة الكثير من تلك الممارسات على صحة الناس، ولمس السواد الأعظم منهم الفارق بين العلم الحقيقي والممارسات الشعبية المتوارثة، لكن الحال ليس كذلك بالنسبة للأمور النظرية، والعلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع. على سبيل المثال يصعب أن تثبت بشكل حاسم تأثير بعض الفتاوى والآراء الدينية على "صحة" العقل الجمعي، أو على نفسية أفراد المجتمع، وسلوكياتهم، وعلاقاتهم بعضهم ببعض وبالآخر".
"الهوت شورت"
خلال الفترة الأخيرة تصدرت عبارة "الهوت شورت" مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما تداول مستخدمون مقطع فيديو تظهر فيه سيدة تقدم نفسها على أنها داعية إسلامية، معروفة باسم "فدوى مواهب"، تحذر فيه الفتيات من ارتداء الملابس القصيرة أمام أمهاتهن أو أي امرأة، معتبرة أن هذا "حرام" ويعد "ذنباً" لا يستهان به.
هذا الخطاب وما يشابهه يدعي أصحابه أنهم يسعون إلى إصلاح المجتمع، ونشر الأخلاق والفضيلة، والابتعاد عن الرذائل، بما فيها إثارة الشهوة الجنسية، وغير ذلك.
ومع أن ردود الفعل في غالبيتها جاءت ساخرة أو غاضبة مما قالته "مواهب"، إلا أن ثمة عدداً غير قليل ممن دافع عما قالته، ومنهم وعاظ ودعاة إسلاميون، ما أثار حالة من الجدل، خصوصا في ما يخص عورة المرأة أمام النساء، حتى ولو كانت أمها، وهي "من السرة إلى الركبة" حسب رأي هؤلاء.
وعلق أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة مونستر الألمانية الدكتور عاصم حفني على أحد هذه الآراء قائلاً: "الاحتشام والحث عليه أمر محمود دون شك، ولكن كلام الشيخ (عبد الله رشدي) هنا معناه أنه يحرم على المرأة تعرية الفخذ أمام النساء، بينما يجوز لها تعرية ثدييها أمامهن، وأن تسبح عارية الجزء العلوي (توبليس)، أي أن الشرع يرى الفخذ أشد عورة من الثدي؛ ولذا فإن مراعاة الذوق العام في تحديد مفهوم الاحتشام أمر هام".
نتائج عكسية
يقول أستاذ علم الاجتماع "لو قمنا برصد الخطاب الديني التقليدي في مصر، خلال العقود الماضية، سنجد أن قرابة 75 بالمئة منه عن المرأة، وجسد المرأة، وفتنة المرأة، وثياب المرأة... الخ، وهذه الفترة هي أكثر الفترات التي شهدت ارتفاعاً غير مسبوق في نسب التحرش بالنساء في مصر. من الواضح بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الخطاب المتشدد أتى بنتائج عكسية تماماً، لقد وصل المصريون إلى ترتيبات متقدمة في التحرش ومشاهدة المواقع الإباحية على مستوى العالم، خلال تلك الفترة".
ويرى صادق أن "في الدين ما يعطي الناس الحق في التصرف في شؤون دنياهم لأنهم أدرى بها، لكن ثمة رجال دين يرغبون في السيطرة على عقول الناس، وخصوصاً النساء، لأنهن من الحلقات الأكثر ضعفاً، لذا يقومون طوال الوقت بتحريض الرجال على النساء: الرجل يكون "ديوثاً" ويتم وصمه في المجتمع إذا ترك امرأته تلبس ما تريد، هذا يعني أن المرأة يجب أن ترتدي زياً معيناً ليس لأنها تريد ذلك، ولكن حتى لا تتضرر صورة الرجل، وهذا أحد أشكال السيطرة على المرأة التي لا تتناسب مع العصر".
تشويه وتطرف
من جانبها تقول استشارية الصحة النفسية الدكتورة منى حمدي لـ"النهار العربي" إن "تحذير فتاة من أن ترتدي ثياباً قصيرة أمام أمها، وبالتبعية والدها وإخوانها، يغرس أفكاراً تفقدها الشعور بالأمان داخل أسرتها".
وتضيف استشارية الصحة النفسية أن "هذا يزرع مشاعر الريبة بين الطفلة وأمها، وينتزع منها الشعور بالراحة والأمان التي يفترض أن يجدها الطفل في بيته ووسط أسرته، كما أنه قد يستحضر أفكاراً لا ترد في ذهن الطفلة، وهذا أمر خطير وله أضرار نفسية بالغة على الأطفال".
وتحلل حمدي جانباً من نفسية الشخصيات التي تروج هذا الخطاب داخل المجتمع، وتقول: "غالباً يكون هؤلاء قادمين من تطرف في اتجاه إلى تطرف في الاتجاه الآخر. وإذا كان الاتجاه الجديد هو التدين، يحدث أنهم يختارون النمط الأكثر تطرفاً في التدين، وهذا ربما يكون نتيجة شعورهم بالذنب، وتشددهم هذا يكون دافعه هو الرغبة في التطهر مما مضى".
إثارة الغرائز
الناشطة الاجتماعية ندى عبدالله تعتقد أن "الدين الإسلامي هو دين جميل، يدعو إلى الحب، وحسن الظن، وليس إلى التشكيك بنوايا أقرب الناس إلينا، وهي الأم"، وتقول لـ"النهار العربي: "ما يردده المتشددون من الدعوة لتغطية الفتاة لجسدها أمام أفراد أسرتها حتى أمها، يعني أنهم يقولون (ضمنياً) للفتاة احذري من أمك، فقد تنظر إليك نظرة شهوانية".
تضيف: "هذا جنون واضح، الأم التي كانت تغيّر ملابس طفلتها لسنوات، وتطلع على كل أسرارها، فجأة تتحول من مصدر أمان واحتواء، إلى شخص يجب الحذر منه لأنه قد يمثل تهديداً على مساحة الأمان الخاصة بطفلتها؟! بالتأكيد هذا ليس له علاقة بالدين الذي أعرفه".
وتتفق عبد الله مع رأي أستاذ علم الاجتماع، وتقول: "نعم لقد كان للخطاب الديني المتشدد دور محوري في إثارة الغرائز، فطوال الوقت ينبه المتشددون العقول إلى جسد المرأة ومفاتنها، ثم يتحدثون عن الحور العين ليل نهار والملذات الجنسية التي تنتظر الرجال في الجنة، لقد ارتفعت معدلات التحرش بشكل كبير في فترة تصاعد تيارات الإسلام السياسي، وانتشار هذا الخطاب المتطرف".