مع رفض الحكومة السودانية المشاركة في جولة جديدة من محادثات جدة، والشروط التي وُضعت على مؤتمر القاهرة، تتبدّد فرص المسارات السياسية والدبلوماسية الخاصة بحلّ الأزمة السودانية بعد أكثر من عام على الحرب. غير أن زيارات وتصريحات لمسؤولين في الجيش والخارجية، تعطي انطباعاً بأن الخرطوم حسمت خيارها في التوجّه شرقاً.
استنكر مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ما وصفه بالدعوة القسرية للتفاوض في جدة مع قوات الدعم السريع. وقال في افتتاح "مؤتمر الصلح المجتمعي والسلام الدائم" في بورتسودان: "لن نذهب إلى منبر جدة للتفاوض. ومن يرد ذلك، عليه أن يقتلنا في بلدنا ويحمل رفاتنا إلى جدة". وأضاف: "اتصل بلينكن بالرئيس وقال له يجب أن تمشى إلى جدة. السودان لن يوافق على الذهاب إلى جدة، نحن لن نذهب كالأغنام".
لا دعوات
جاءت هذه المواقف الحادة غداة اتصال امتد نصف ساعة بين عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش السوداني، وانتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، ناقشا فيه مسارات الدعم الإنساني والعودة إلى محادثات جدة، بحسب بيان الخارجية الأميركية، فيما بدا لافتاً غياب أي إعلان رسمي عن توجيه الخارجية السعودية دعوات لعقد جولة جديدة من المباحثات في جدة، علماً أن الرياض وواشنطن ترعيان هذه المباحثات التي تعثرت في أكثر من جولة. كما لم يصدر أي تعليق من قوات الدعم السريع على قبول التفاوض، بعدما شاعت معلومات تتحدث عن تحديد السبت المقبل موعداً للجولة المقبلة، وهذا ما نفته مصادر محلية مشيرة إلى عدم وصول أي دعوة بتاريخ محدّد أو أجندة محدّدة للتفاوض.
وذكرت المصادر، أن الموقف ذاته أُبلغ للمبعوث الأممي رمطان المعامرة، الذي يزور بورتسودان والذي التقى البرهان مساء الأربعاء.
وتزامناً مع المواقف الأخيرة، رحّبت الخارجية السودانية بإعلان مصر استضافتها مؤتمراً يجمع القوى السياسية وشركاء إقليميين ودوليين في نهاية حزيران (يونيو). غير أن للخارجية السودانية مطالب عدة، مثل عدم دعوة الإيغاد والاتحاد الأفريقي ما لم ينهِ هذا الأخير تعليق عضوية السودان المجمّدة منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2021، وتصحيح الإيغاد موقفها مما يجري في السودان، وذلك بحسب بيان أصدرته الخارجية وضمّنته دعوة إلى إشراك "الأغلبية الصامتة من الشعب السوداني، والذين تعبّر عنهم المقاومة الشعبية" في هذه المباحثات.
عرض روسي
اللافت أن المواقف الأخيرة تأتي وسط نشاط سياسي وعسكري يقترب من المعسكر الشرقي، عبّر عنه بوضوح كلام ياسر العطا، مساعد القائد العام للجيش، في حديث لقناة "العربية"، كشف فيه عن عرضِ روسيا تقديم الدعم العسكري للجيش السوداني مقابل قاعدة تستخدمها البحرية الروسية للتزود بالوقود على البحر الأحمر، وهذا لقي قبولاً لدى السلطة بحسب العطا.
إلى ذلك، قالت مصادر محلية، إن عقار سيتوجّه برفقة وزراء الخارجية والمالية والمعادن إلى موسكو لحضور منتدى سانت بطرسبرغ في 5 حزيران (يونيو)، وسط توقعات بتوقيع اتفاقيات محورية في هذا الإطار.
وبينما يبحث حسين عوض، وزير الخارجية المكلّف، في بكين تعزيز علاقات السودان مع الصين، التي يحط فيها غداة زيارة مماثلة لإيران، بدا لافتاً الحديث عن طائرة شحن إيرانية توجّهت من بندر عباس على الخليج العربي نحو بورتسودان، للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب قبل عام تقريباً. وهذا ما يعتبره مراقبون السبب وراء تشدّد الخرطوم الأخير حيال المفاوضات، أي تلقّيها دعماً يمكّن الجيش من إنهاء الجمود الميداني ووقف نزيف الخسائر التي يتكبّدها في جبهات عدة.
بين رفض جدة وقبول موسكو
يقرأ الكاتب والباحث محمد الفاتح إسماعيل حسن رفض البرهان الذهاب إلى جدة في سياق تسارع التفاهمات مع موسكو. ويقول لـ "النهار العربي": "يمكن أن نقرأ ذلك في سياق توقيع اتفاقية استغلال روسيا للساحل السوداني على البحر الأحمر، مقابل تقديم دعم عسكري واقتصادي للحكومة السودانية، ما يعني عملياً أن البرهان قرّر التوجّه شرقاً بعد سنوات من استجداء الغرب من دون فائدة".
وبحسب حسن، لا يهتم الجيش السوداني بردّات الفعل السياسية الخارجية على موقفه من التفاوض في جدة، بقدر اهتمامه بالرأي العام الشعبي الذي يرفض التفاوض مع قوات الدعم السريع، بحسب قوله.
يتفق الباحث في العلوم السياسية محمد عثمان إبراهيم مع حسن، على أن الحرب فرضت ظروفاً جديدة على الحكومة السودانية "مع تهديد كيان الدولة بالزوال"، بحسب قوله، مضيفاً لـ "النهار العربي" أن واقع الحرب يتطلّب من حكومة بورتسودان نسج علاقات أكثر جرأة مع دول مستعدة لإمدادها بالدعم السياسي والعسكري والاستخباري والاقتصادي، بما يعدّل كفة الصراع الحالي لصالحها، لصون الدولة من الانهيار، "وفقاً للمعطيات الراهنة والتحولات الإقليمية التي تمنح موكسو أفضلية في العمق الأفريقي أكثر من واشنطن"، كما يقول.
أي مكاسب؟
لكن، هل يشكّل رفض الخرطوم التفاوض مكسباً سياسياً لقوات الدعم السريع؟
يرى المحلل السياسي محمد تورشين، أن الملف أكبر من تحقيق مكاسب يستفيد منها الدعم السريع، من منطلق أن الخرطوم لم ترفض التفاوض بشكل علني. فتصريحات المسؤولين السودانيين توحي بأن البلاد ستغدو مسرحاً لصراع إقليمي دولي، على حدّ تعبيره، مضيفاً لـ "النهار العربي": "يمكن القول اليوم إن العلاقات الأميركية - السودانية وصلت إلى نقطة اللاعودة، وأعتقد أن تصريحات عقار والعطا بشأن إيران وروسيا مقدّمات لتعاون أكبر معهما، بعد التوقف عن التعويل على الجانب الأميركي"، مؤكّداً أن المواقف الرافضة للتفاوض لن تصبّ في صالح قوات الدعم السريع، بقدر ما هي بداية لتحولات كبيرة ومهمّة في السودان وفي المنطقة.
ويتوقّع تورشين أخيراً أن تردّ واشنطن على تعاون الخرطوم مع الشرق "بدعم غير مباشر أو غير رسمي لقوات الدعم السريع، وعليه تبقى خيارات السودان محدودة في ظل تنشيط العلاقات مع موسكو واستعادتها مع طهران. لكن الوضع سيبقى على ما هو عليه، وسيظل السودان مسرحاً لصراع القوى الإقليمية والدولية".