على مدار الأيام الفائتة، احتفت وسائل إعلام بدراسة جديدة تقول إنها قدمت، للمرة الأولى، تفسيراً مقنعاً لبناء الأهرامات المصرية على الضفة الغربية لنهر النيل، وذلك عبر اكتشاف فرع مطمور تحت الرمال من أفرع النيل، يمتد بمحاذاة 31 هرماً يعود تاريخها إلى عصر عهد الدولة القديمة.
في المقابل انتقد علماء مصريات الدراسة المنشورة في مجلة "كوميونيكيشنز إيرث أند إنفايرنمنت"، أخيراً، معتبرين أنها "لا تقدم أي جديد". وفي تصريحات خاصة لـ"النهار العربي" قال عالم المصريات زاهي حواس إن معدّة الدراسة، إيمان غنيم من جامعة نورث كارولينا الأميركية، وفريقها البحثي اقترفوا ما سمّاه "سرقة علمية".
وفي وقتٍ سابق قال حواس، وعالم المصريات الأميركي مارك لينر في بيان صحافي إنّ "مؤلفي هذه الدراسة إمّا يجهلون النقاش العلمي المنشور بشأن هذه المسألة، أو يتجاهلون هذا النقاش بهدف تقديم نتائجهم باعتبارها اكتشافاً جديداً".
وأضاف البيان أنّ "أي طالب مبتدئ في علم المصريات يعرف أن أهرامات المملكتين القديمة والوسطى تنتمي إلى مقابر غرب العاصمة التقليدية لمصر، وأن الغرب كان اتجاه الموتى"، بالإضافة إلى أنّ "العلماء افترضوا قبل أكثر من قرن وصول المياه للأهرامات عبر قناة أو فرع غرب النيل".
فما الجديد الذي قدّمته الدراسة التي أجرتها غنيم وفريقها؟ وهل الدراسة مجرد زوبعة في فنجان؟ أم أنها تمثل إضافة قيّمة إلى البحث العلمي؟
شُيدت الأهرامات غرب النيل لأن "الغرب اتجاه الموتى"
ليس جديداً
ثمّة فرضيات قديمة سبقت دراسة غنيم الأخيرة، تحدثت عن وصول مياه النيل إلى أهرامات الجيزة، حيث استُخدمت في نقل الأحجار إلى مواقع بناء الأهرامات عبر السفن. وطوال السنوات الماضية سعى الباحثون إلى التثبت من صحة هذه الفرضية عبر إجراء دراسات ميدانية، آخرها دراسة أعدّتها قبل عامين الباحثة المصرية في مركز سيريغ لعلوم الأرض والبيئة التابع لجامعة أكس - مارسيليا في فرنسا هدير شعيشع، رفقة باحثين من فرنسا والصين ومصر.
عملت شعيشع وفريقها على تحليل التربة المحيطة بأهرامات الجيزة، ومنها توصلوا إلى نتائج افترضت أن نهراً طبيعياً وليس قناة اصطناعية - كما اعتقد البعض سابقاً - كان يمر قرب الأهرام قبل أن يختفي عقب كوارث مناخية، مما ساعد المصريين القدماء في جلب الصخور عبر النقل النهري إلى موقع بناء الأهرامات الحالية؛ وأطلق الباحثون على هذا النهر اسم خوفو.
تقول شعيشع لـ"النهار العربي" إن الدراسة الجديدة - محل الجدل - تتفق مع دراستها السابقة؛ وتوضح أنه عندما شُيّدت الأهرامات، كانت المناظر الطبيعية مختلفة تماماً عمّا نراه اليوم، لكن الدراسة الجديدة أعادت صياغة فكرة وجود فرع واحد، ثم منحته اسماً جديداً، "فرع الأهرامات"، ثم وضعته في عنوان الدراسة دون أي تردد، وجاء العنوان: "تم بناء سلسلة الأهرامات المصرية على طول فرع نهر الأهرامات المهجور الآن".
أطلق فريق شعيشع على الممر المائي بالقرب من الأهرامات اسم نهر خوفو
تضيف: "هذا الاكتشاف غير محدد زمنياً وغير موثق بما فيه الكفاية، وأعتقد أنه يجب انتقاد وضع النتائج في العنوان بهذا الشكل، إذ كان من الأفضل استخدام عنوان آخر، مثل: يبدو أن الأهرامات المصرية قد تم بناؤها على طول فرع قديم لنهر النيل".
رصدت شعيشع أوجه ضعف في الدراسة الجديدة، إذ تقول: "لتفسير تطور المناظر الطبيعية في منطقة أهرامات الجيزة قديماً، وفهم تاريخ هجرة النهر وقتذاك، كان من المفترض أن تتناول الدراسة التطور الزمني والمكاني لثلاثة عناصر: (1) المجرى الرئيسي للنهر. (2) الفروع الجانبية. (3) دلتا النهر المتحركة شمالاً".
وتوضح أنّ "التقييم الزمني والمكاني أمر مهم جداً؛ لأنه يساعد في الإجابة عن أسئلة مهمة، منها على سبيل المثال: كيف يمكن لفرع من النهر غرب النيل استيعاب العديد من القوارب التي تحمل شحنات كبيرة من الحجر مما يسمح بالقيام برحلاتِ ذهاب وإياب؟"، لافتة إلى "ضرورة وجود ممرات مائية متعددة، وليس واحداً فقط".
ومع أن دراسة غنيم استخدمت صور الأقمار الصناعية الرادارية، والمسوحات الجيوفيزيائية، والحفر العميق للتربة، ترى شعيشع أنّ "الدراسات المكانية غير كافية في الدراسة الجديدة، إذ لم تُناقش بشكل كافٍ توزيع الرواسب في مواقع مختلفة عبر وادي النيل، وذلك من خلال تحليل حفر الأنوية على سبيل المثال".
يُعد تحليل حفر الأنوية أداةً قيّمة لفهم تاريخ الأرض، من خلال حفر ثقوب عميقة فيها، وجمع عينات من الصخور والرواسب التي تُمثل فترات زمنية مختلفة. بفحص هذه العينات، يمكننا إعادة بناء المناخات القديمة، وتتبع حركة الصفائح التكتونية، وفهم التطور البيولوجي للحياة على الأرض.
رغم الانتقادات، ترى شعيشع أنّ الدراسة الجديدة يمكن أن تمثل مساهمة جيدة؛ كونها تقدم أدلة لمسوحات جيوفيزيائية، وهو ما تعتبره دعماً لنتائج دراستها السابقة، التي نشرتها قبل عامين في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS) عام 2022، والتي استخدمت أدلة قديمة من النباتات والبيئة في منطقة الجيزة.
يقول علماء إن الدراسة الجديدة أعادت إنتاج مجرى مائي عرف في ما قبل.
نقاش قديم
تدفع منهجية البحث العلمي نحو التشكك دائماً، وعدم القطع بأي حقيقة مطلقة؛ إذ يجب أن تكون نتائج أي دراسة محلّ نقد من معديها قبل الباحثين المستقلين، كما يجب أن تُبنى الدراسات على إسهامات علماء سابقين في الأدبيات العلمية.
ويرى منتقدون لدراسة غنيم وزملائها أنها خالفت المنهجية العلمية بالقطع بأنها تقدم كشفاً جديداً لم يسبقها إليه أحد، بعدما تجاهلت اكتشافات سبقتها، ما يجافي الحقيقة، إذ إن إسقاط الجهود السابقة وعدم الإشارة إليها، يعد بمثابة "سرقة علمية"؛ بحسب ما قال حواس.
أطْلَع الخبير المصري البارز "النهار العربي" على ردّ علمي مستفيض أعدّه بشأن الدراسة، لافتاً إلى أن هذا الرد قد أرسله بالفعل إلى هيئة تحرير مجلة "كوميونيكيشنز إيرث أند إنفايرنمنت" لمراجعة دراسة غنيم؛ مؤكداً أن فريق الدراسة الجديدة تجاهل كل الجهود السابقة، وحاول الظهور كما لو أنه قدم اكتشافاً جديداً.
وفي معرض الرد الذي أعدّه حواس بمشاركة لينر، أشار إلى عدة محطات في تاريخ النقاش العلمي القديم حيال وصول مياه النيل إلى الأهرامات، منه ما يعود لأكثر من قرن، إذ حقّق العلماء في فرضية وجود الموانئ في نهاية الممرات الهرمية، وأمام معابد الوادي، وفي الخلجان الطبيعية، مثل حوض أبوصير، وفي أفواه الوادي، مثل حوض خنتكاوس في مصب الوادي المركزي بالجيزة؛ حيث ناقش علماء المصريات فكرة أن هذه الأحواض يمكن أن تصلها مياه النيل، على الأقل عندما تغمر الوادي مياه الفيضان.
أشارت دراسة غنيم ورفاقها إلى قناة بحر الليبيني وبقايا القناة المهجورة المرئية في الخريطة التاريخية لعام 1911 (المسح المصري مقياس القسم 1:50,000)؛ حيث تظهر قناة بحر الليبيني والقناة المهجورة على خريطة أساس القمر الصناعي، ورجحت دراسة غنيم أن يكون بحر الليبيني هو آخر بقايا فرع الأهرامات قبل هجرته شرقاً.
عن هذه النقطة يشير الثنائي حواس ولينر إلى أن البحث بشأن بحر الليبيني يعود لنحو ثلاثة وخمسين عاماً، عندما طوّر عالم المصريات الفرنسي جورج جويون فكرة وجود فرع غرب النيل أو قناة تربط الأهرامات ومعابد الوادي الخاصة بها، وقد حدد هذا الفرع بالبحر الليبيني، في الجيزة.
يقول حواس: "لسنوات درسنا موضوع فرع النيل الغربي على طول مجرى الليبيني، وكيف غذى موانئ أهرامات الجيزة. لقد وجدنا ونشرنا حدود ومعالم موانئ خوفو وخفرع ومنكورع، وهو ما تجاهلته الدراسة الجديدة تماماً".
ثمّة اكتشاف حديث ومهم للغاية أسقطته دراسة غنيم أيضاً ولم تشر إليه، يتعلق باكتشاف بقايا بردية في وادي الجرف القريب من الشاطئ الغربي لخليج السويس عام 2013.
بقايا البردية هذه كانت تخص بحاراً يدعى ميرير قاد فريقاً كانت مهمته توصيل الحجر الجيري بالقارب من المحاجر الشرقية في طرة إلى الجيزة لبناء هرم خوفو. أشار مكتشف البردية، عالم المصريات الفرنسي بيير تاليت وفريقه الأثري، إلى أن بحر الليبيني يمكن أن يكون هو نفسه فرع النيل الغربي، والطرق الجنوبية التي سلكها ميرير ورجاله إلى الجيزة.
بعد استعراض الانتقادات، كان لزاماً علينا التواصل مع الطرف الآخر، وعلى مدار نحو أسبوعين وأثناء إعداد هذا التقرير، أرسلنا ثلاث رسائل إلى الدكتورة إيمان غنيم عبر البريد الإلكتروني؛ حيث وضعنا أمامها كل الانتقادات، لكننا لم نتلق أي رد حتى كتابة هذه السطور. الأمر نفسه تكرر مع الدكتور تيموثي ج. رالف، الباحث المشارك في الدراسة.