انتقلت مساعي التقارب بين مصر وإيران من مستوى التلميحات واللقاءات البروتوكولية والاتصالات شبه السرية، إلى الإعلان الصريح عن النوايا.
وذكرت وكالة "تسنيم" الإيرانية للأنباء أمس، أن وزير الخارجية الإيراني بالوكالة علي باقري كني التقى وزير الخارجية المصري سامح شكري على هامش اجتماع لوزراء خارجية مجموعة "بريكس" في مدينة نيجني نوفغورود الروسية.
كذلك صرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أمس أن المحادثات مع مصر مستمرة على أعلى مستوى دبلوماسي.
وكانت القاهرة خرجت أخيراً عن صمتها الذي استمر لأشهر، وتحدثت بشكل أكثر وضوحاً عن توافقها مع طهران في تطوير العلاقات الثنائية بين الدولتين، وذلك في البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية المصرية في أعقاب اتصال هاتفي تلقاه شكري من باقري كني.
وأشار البيان الرسمي الذي صدر الأربعاء، إلى "توافق الوزيرين على أهمية متابعة مسار تطوير العلاقات الثنائية بما يضمن معالجة كافة القضايا العالقة، تمهيداً لاستعادة العلاقات إلى طبيعتها، استناداً إلى مبادئ الاحترام المتبادل وحسن الجوار، والعمل على تحقيق مصالح الشعبين المصري والإيراني، ودعم استقرار المنطقة".
وكان شكري سافر إلى طهران في 22 أيار (مايو) الماضي لتمثيل مصر في مراسم العزاء الرسمية للرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، ومرافقيهم.
وكانت العلاقات المصرية - الإيرانية شهدت توتراً مستمراً منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وظلت مقطوعة دبلوماسياً لأكثر من 40 عاماً، باستثناء مكتب لرعاية المصالح في البلدين، إلى جانب لقاءات بروتوكولية عارضة تجمع رؤساء ومسؤولين من البلدين.
وقد ظهرت بوادر لتحسين العلاقات، بين الحين والآخر، إلا أنها لم تكتمل. لكن المساعي الأخيرة تبدو أكثر استمرارية، ما جعل محللين ومراقبين يتوقعون أن يحدث تقارب وشيك بين الدولتين، مع اتفاق معظمهم على أن ثمة عوامل عدة تلعب دوراً حاسماً في مدى إمكانية إتمام تلك الخطوة.
وقالت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"النهار العربي" إن "القاهرة لديها نية صادقة لتحقيق تقارب مع طهران، لكن تحقق هذه النية يرتبط بمدى إنجاز تقدم في معالجة عدد من القضايا الخلافية، في مقدمتها التدخلات الإيرانية في دول عربية عدة، وحرب غزة، والأوضاع المشتعلة في جنوب لبنان واليمن".
متغيرات وديناميكيات يقول أستاذ الدراسات الإيرانية بكلية الآداب جامعة عين شمس الدكتور سعيد الصباغ لـ"النهار العربي": "في تصوري فإن الاتصالات الأخيرة تعبّر عن مستوى الجهود والمساعي المبذولة للتقارب والتقريب بين البلدين تمهيداً لاستئناف العلاقات الثنائية، وفي تقديري هذا مستوى كبير".
وأضاف الصباغ الذي ألف كتباً عدة مدعومة بوثائق عن العلاقات بين القاهرة وطهران وعن الشأن الإيراني: "هذا ليس المؤشر الوحيد، فقد سبق تصريح في 15 أيار (مايو) الماضي لوزير الخارجية الإيراني (الراحل) حسين أمير عبد اللهيان قال فيه إن بلاده لديها استراتيجية للتعاون الإقليمي مع مصر، وكان هذا على هامش مؤتمر الحوار العربي - الإيراني في طهران، كما حصلت لقاءات واتصالات بين مسؤولين في البلدين، وهذه الاتصالات تعبر عن المستوى العالي للجهود المبذولة والتي تعكس إرادة البلدين في استئناف الحوار بشأن الملفات والقضايا الخلافية وتسويتها تمهيداً لاستئناف العلاقات بصورة طبيعية".
واستدرك: "لكن أيضاً، في تقديري، فإن العلاقات الثنائية بين مصر وإيران تخضع بشكل أساسي للديناميكيات الإقليمية والدولية. ونلاحظ أن القطيعة التي استمرت لعقود بين مصر وإيران، لا تقوم على صراع تاريخي استراتيجي، أو بسبب تصادم جوهري في المصالح، أو حتى تنافس جيوسياسي، ومن هذا المنطلق، أتصور أن ثمة متغيرات إقليمية ودولية تدفع حالياً في اتجاه التقارب بين القاهرة وطهران".
نوايا وتخوفات يقول الصحافي والباحث الإيراني في مركز دراسات الشرق الأوسط بطهران محمد خواجوائي لـ"النهار العربي": "خلال العقدين الأخيرين، اهتمت الحكومات الإيرانية المختلفة (حكومات محمد خاتمي، ومحمود أحمدي نجاد، وحسن روحاني، وإبراهيم رئيسي) بإحياء العلاقات مع مصر، وطوال هذه السنوات، كانت إيران حريصة على الاتصال بالسلطات المصرية، وتتطلع بشدة إلى إحياء علاقاتها معها في أقرب وقت ممكن".
الرئيس المصري (الراحل) حسني مبارك خلال لقاء مع الرئيس الإيراني (الأسبق) محمد خاتمي.
ونقل خواجوائي عن مصادر إيرانية وصفها بـ"المطلعة" أن "الملاحظات والهواجس التي يبديها الجهاز الأمني المصري، أسفرت عن تباطؤ في تحرك البلدين للتقارب بينهما".
ويضيف: "هذه المصادر تقول إن لدى الأجهزة الأمنية المصرية نظرة بالغة السلبية إلى السياسات الإقليمية لإيران. وعلى هذا الأساس، يُقال إن دعم طهران للمجموعات شبه العسكرية في بلدان المنطقة، أثار قلق تلك الأجهزة من أن تقوم إيران مستقبلاً بتأسيس ودعم مجموعات مماثلة في مصر".
ويرى أن "الدافع الأهم لإيران هو محاولة الخروج من العزلة التي تفرضها أميركا على المنطقة. ويحاول زعماء إيران إرسال رسالة مفادها أن الجهود الرامية إلى عزل طهران قد فشلت من خلال تطوير العلاقات مع دول المنطقة. ومن ناحية أخرى، تريد طهران زيادة نفوذها الإقليمي".
وبلفت إلى أنه "في الأشهر الأخيرة، في البيئة السياسية والإعلامية الإيرانية، ظهر الكثير من الحماس لاستعادة العلاقات مع مصر". وتطرق إلى أن تطور العلاقات الثنائية بين الدولتين يرتبط أساساً بعوامل إقليمية ودولية أكثر من كونه قراراً ثنائياً خالصاً.
الحسم الانتخابي يقول الباحث الأكاديمي المتخصص في الشؤون الإيرانية أحمد فاروق لـ"النهار العربي": "كان عبد اللهيان متحمساً لتحسين العلاقات مع مصر، وباعتباره مقرباً من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، كان لديه النفوذ والقدر لدفع تلك العلاقات قدماً، مع الأخذ في الحسبان أن هذا يأتي ضمن التوجه العام لطهران نحو دول الجوار".
وزير الخارجية الإيراني الراحل أمير حسين عبد اللهيان
ويعتقد فاروق أن الاتصال الذي تم بين باقري كني وشكري، أخيراً "ركز بشكل أكبر على حرب غزة. الظرف الحالي يجبر إيران على التواصل مع مصر والجهات الفاعلة في أزمة غزة، لذا من المبكر تصور أن ثمة تطوراً قريباً في العلاقات، على الأقل حتى إتمام الانتخابات المقبلة في إيران".
ويرى أن "غياب عبد اللهيان ربما يكون له أثر كبير في المرحلة المقبلة، لأن التوجهات الإيرانية الأساسية كانت تهتم بالتقارب مع منطقة الخليج وآسيا الوسطى بشكل رئيسي، أما العلاقات مع مصر فكانت بدفع من عبد اللهيان". ويخلص إلى أن "مدى التقارب في العلاقات المصرية - الإيرانية يتوقف على توجهات الحكومة الإيرانية المقبلة".