لن يمرّ الأضحى بهدوء على السودانيين، للعام الثاني على التوالي. فبهجة المناسبة غائبة وسط استمرار الحرب وامتدادها إلى مواقع كانت آمنة نسبياً في مثل هذا الوقت من السنة الماضية. وتُضاعف الأزمة الاقتصادية من همّ السكان، لتقلّ نسبة الحجاج لهذا الموسم بشكل قياسي، فيُحرم عدد كبير من أبناء البلاد من أداء الشعائر الدينية في الحرمين بسبب التكاليف العالية.
الحج يفتقد السودانيين
حتى شهر كانون الأول (ديسمبر) الفائت، لم تكن أحوال أحمد علي وزوجته حياة سيئة أو متأثرة بالحرب، نظراً لوجودهما في ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة. غير أن تدهور الوضع الأمني مع توسّع المعارك قلب الأوضاع بشكل صاعق، كما يقول الرجل الستيني. فتاجر السمسم تعرّض بيته للهجوم مرات عدة، ونُهبت أمواله وذهب زوجته، وحتى السيارة التي يمتلكها. يقول لـ"النهار العربي": "بقي لنا بعض المال خبأناه لرحلة الحج، فحملناه وغادرنا بالدفار (عربة تجرّها الحيوانات) إلى القضارف. لكن قطّاع الطرق هاجمونا مجدداً، وسرقوا ما بقي معنا". يضيف: "لم يكن أمامي إلّا منحهم ما لديّ لأنجو وأصل إلى مكان آمن، أنقذني فيه أولادي من العوز بتحويلاتهم المالية التي فضّلنا أن نصرفها على علاج زوجتي والسكن. فالحج لمن استطاع إليه سبيلاً".
قد تختصر حكاية هذا الرجل مشهد الحجيج السودانيين القليل. فللمرّة الأولى منذ مدة طويلة، تقلّ نسبتهم بشكل كبير، بسبب تكاليف الرحلة من جهة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية للشريحة العظمى من السكان من جهة أخرى.
ولعلّ اللافت هو تدهور سعر صرف الجنيه السوداني أمام الدولار. ففي موسم الحج الماضي الذي تزامن أيضاً مع الحرب، وصل سعر الصرف إلى 600 جنيه للدولار، ليقفز هذا العام إلى أكثر من 1300 ضمن المصارف، فيما يرتفع الرقم في السوق الموازي إلى عتبة 2000 جنيه. وهذا أمر دفع قسماً من السودانيين إلى صرف النظر عن أداء الشعائر في هذا العام.
ويؤكّد أصحاب مكاتب السياحة والتأشيرات، أن الإجراءات التي اتخذتها السلطات السعودية لم تتغيّر، لكن تكلفة الرحلة بالطيران أو النقل البحري مع السكن والطعام والتأمين تقترب من 5000 دولار للفرد الواحد، ما يجعل حج البيت لهذا العام مرهقاً للسودانيين.
العيد حاضر في بورتسودان... ولكن!
لا تزال بورتسودان الأكثر استقراراً بين مدن البلاد، مع انتقال معظم مراكز الحكم والإدارات إليها بدلاً من الخرطوم. لذلك، تستعد العاصمة الموقتة لاستقبال العيد بما تيسر من مظاهر البهجة، وفق وصف آلاء مبارك، وهي أمّ لثلاثة أطفال وموظفة في قطاع الاتصالات، إذ تجهد لتأمين مستلزمات الكعك والحلويات لإيجاد حالة فرح، ولو موقتة.
تقول لـ"النهار العربي": "ننعم بالأمن والأمان هنا، وسأعمل ليفرح أطفالي علّهم ينسون أزمة الحر القاتل وانقطاع الكهرباء المتكرّر. المواد الغذائية متوافرة هنا، لكن الأسعار المرتفعة تبقى الهمّ الأكبر، خصوصاً للموظفين الذين لم يتقاضوا مرتباتهم منذ مدة طويلة".
يتطابق الإصرار على الفرح الذي تسعى إليه آلاء مع كلام عبد الله، الشاب العشريني الذي يستمر بزيارة مراكز الإيواء للنازحين وإجراء مسابقات ترفيهية للأطفال، على أمل إبعادهم عن حديث السياسة ويوميات الحرب. يقول ابن بورتسودان لـ"النهار العربي": "لو كنا قنعنا (يئسنا) من السودان، فيجب ألّا يفقد الأطفال أملهم. لذلك أستمر بزيارتهم مع المتطوعين، وتقديم المساعدة لهم، خصوصاً أن كثيراً منهم غاب عن المدارس، فيجب ألّا يغرقوا في مشاكل الحرب كما نعيشها نحن".
لا فرح في الخرطوم
في الخرطوم، المعارك الضارية بين مدن العاصمة الثلاث غيّبت العيد حتى في المناطق التي عادت إلى عهدة الجيش السوداني أخيراً. هكذا ذهبت مساعي الطيب محمد بالعودة وأسرته إلى أم درمان أدراج الرياح. فمهندس الإلكترونيات الذي نزح قبل عام في اتجاه ولاية نهر النيل أرهقته الأسعار المرتفعة للشقق المؤجّرة.
ومع استعادة الجيش مساحات واسعة من المدينة التي تشكّل ثالث أجزاء الخرطوم، قرّر هذا الرجل الأربعيني العودة إلى منزله وترميم ما تضرّر فيه، محاولاً التأقلم مع أزمات المياه والكهرباء. لكن القصف المدفعي العنيف على منطقة كرري وأحياء أخرى في المدينة أعاد الأوضاع إلى نقطة الصفر كما يقول لـ"النهار العربي"، مضيفاً: "حاولت القدوم قبل العائلة لترميم المنزل واستعادة العمل، لكن الوضع في الأسبوع الماضي كان مماثلاً لبدايات الحرب. فالقصف لم يتوقف، ومستشفى النو التعليمي بات ممتلئاً بالجثث والجرحى".
وختم: "لم تتعاف الخرطوم بعد، ولا مكان للعيد هنا في هذا العام أيضاً".
مدينة أشباح
على الضفة الشرقية من العاصمة، يستذكر مدرّس اللغة العربية عبد الواحد ياسين أيام عيد الأضحى في حي كافوري حيث كان يقيم.
هناك، كان يقطن العديد من أبناء الجاليات العربية والأجنبية، ويلتقون في مجمع النور، أحد أكبر مساجد مدينة بحري، بل والخرطوم نفسها، ويتنافس السودانيون في ذبح الأضاحي فجر أول أيام العيد وحتى اليوم الثالث. وهذا الأمر بات مفقوداً تماماً.
يقول ياسين لـ"النهار العربي": "بحري أجمل مناطق الخرطوم، لكنها اليوم مدينة أشباح. لم يبق أحد بعد المعارك الأخيرة، ومن عجز عن الرحيل تكفّلت الحروب الأخيرة عند كبري الحلفايا وشمبات بنزوحنا قسراً".
يضيف أخيراً: "أحاول جاهداً الخروج من المنطقة في أسرع وقت باتجاه عطبرة أو شندي، فلم يعد ممكناً إبقاء الأولاد في جو الموت القذر".