النهار

بين مطرقة الجوع وسندان القصف... نساء وأطفال ‏محاصرون في كنيسة بالسودان
المصدر: رويترز
في ظل شح الطعام، تقوم الراهبات بغلي أوراق الأشجار ‏ليأكلها الأطفال فيما يؤْثر بالغون غيرهم على أنفسهم ولا ‏يتناولون ما يسد رمقهم.‏
بين مطرقة الجوع وسندان القصف... نساء وأطفال ‏محاصرون في كنيسة بالسودان
تقطعت السبل بأهالي السودان جراء الحرب
A+   A-
 
اضطر الأب جاكوب ثليكادان المحاصر في مركز كاثوليكي ‏يؤوي العشرات من النساء والأطفال لحمايتهم من المعارك ‏المستعرة في شوارع الخرطوم إلى عمل ثقوب جديدة في ‏حزامه بعدما تسبب شح إمدادات الطعام في نقص وزنه.‏

ويحتمي نحو 80 شخصا بدار مريم، وهي كنيسة كاثوليكية ‏ومجمع تعليمي في حي الشجرة بالخرطوم، بعد أن تقطعت ‏بهم السبل وسط تبادل إطلاق النار بين الجيش السوداني ‏وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، وفقا لما أوضحه الكاهن ‏وسبعة أشخاص آخرون في الدار.‏

وتعرّض سقف المبنى الرئيسي لأضرار جراء القذائف، ‏واشتعلت النيران في أجزاء من سكن الراهبات. وصارت ‏العين لا تخطئ الثقوب التي تركت بصمتها على الجدران ‏لتكون شاهدا على عبور رصاصات طائشة.‏

وفي ظل شح الطعام، تقوم الراهبات بغلي أوراق الأشجار ‏ليأكلها الأطفال فيما يؤْثر بالغون غيرهم على أنفسهم ولا ‏يتناولون ما يسد رمقهم.‏

وانتهت محاولة من الصليب الأحمر لإنقاذهم في كانون الأول ‏‏(ديسمبر) بمقتل شخصين وإصابة سبعة آخرين، من بينهم ‏ثلاثة من موظفي المؤسسة الخيرية، بعد أن فتح مسلحون النار ‏على قافلة مما أجبرها على العودة قبل أن تتمكن من الوصول ‏إلى الدار. وتبادل الطرفان المتحاربان الاتهامات بالمسؤولية ‏عن الهجوم.‏

وقال ثليكادان إنه والراهبات رفضوا عروضا من الجيش ‏لنقلهم عبر النهر بشكل دائم مع ترك العائلات وراءهم.‏

وقال ثليكادان، وهو هندي يبلغ من العمر 69 عاما "عندما ‏يصبح الطريق آمنا، سنكون أول من يغادر، ولكن مع الناس".‏
 

وفرّ كثير من سكان العاصمة السودانية بعد اندلاع شرارة ‏الصراع في نيسان (أبريل) من العام الماضي وامتدادها ‏للخرطوم ومدينتي بحري وأم درمان على نهر النيل، قبل أن ‏يتّسع الصراع سريعا إلى مناطق أخرى من البلاد.‏

وفي بداية الحرب، احتلت قوات الدعم السريع مواقع ‏استراتيجية وأحياء سكنية في الخرطوم ونشرت قناصة على ‏المباني الشاهقة. ورد الجيش، الذي لا يمتلك قوات برية فعالة، ‏بالمدفعية الثقيلة والضربات الجوية.‏

وأصبحت دار مريم ملاذا آمنا لأولئك الذين لا يملكون المال ‏اللازم للفرار أو ليس لديهم مكان يذهبون إليه.‏

وتظهر الصور التي أطْلع ثليكادان وكالة "رويترز" عليها ‏أجزاء من مباني الدار يتناثر فيها الحطام فضلا عن جدران ‏لحقت بها أضرار شديدة بسبب الرصاص أو القصف وغرف ‏وممرات يكسوها السواد بسبب الدخان.‏

وقال "أصبح وضعنا الغذائي سيئا للغاية... نشعر جميعا ‏بالوهن الشديد".‏

وينتشر الجوع الحاد في المناطق الأكثر نكبة بالصراع في ‏أنحاء السودان، مما استلزم إطلاق تحذيرات من مجاعة في ‏مناطق من بينها الخرطوم.‏

‏10 ملايين نازح
لجأت بعض العائلات إلى المركز في حزيران (يونيو) من ‏العام الماضي، على أمل الاحتماء تحت سقف خرساني. وقال ‏ثليكادان إن المنطقة مع ذلك سرعان ما صارت معزولة مع ‏ضغط قوات الدعم السريع للسيطرة على مقر سلاح المدرعات ‏ذي الأهمية الاستراتيجية الذي يبعد نحو كيلومترين عن ‏المركز الكاثوليكي، ضمن عدد من قواعد الجيش التي كانت ‏تستهدفها.‏

ويتعرض حي الشجرة لهجوم عنيف من قبل قوات الدعم ‏السريع. وسجل من يملكون المال اللازم من السكان بالقرب ‏من الحي أسماءهم لدى الجيش ليتم نقلهم إلى الضفة الأخرى ‏من نهر النيل، وينتظر بعضهم منذ شهور.‏

وقال ثليكادان إن الإجلاء ليلا بالقوارب عبر رافد النيل ‏الأبيض يعتبر مع ذلك بالغ الخطورة على الأطفال المحتمين ‏بالمركز.‏

وفجّرت حرب السودان أكبر أزمة نزوح في العالم ودفعت ما ‏يقرب من 10 ملايين شخص للبحث عن مأوى داخل البلاد أو ‏خارجها، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة.‏

ووثقت وكالة "رويترز" كيف أدّى القتال إلى عمليات قتل ذات ‏دوافع عرقية في إقليم دارفور بغرب البلاد وإلى انتشار ‏الجوع بشكل مميت.‏

كما ألحقت الحرب دمارا غير مسبوق بالعاصمة، التي لم تنل ‏منها صراعات سابقة في تاريخ السودان الحديث. ويقول عمال ‏الإغاثة إن طرفي الصراع عرقلا تسليم مواد الإغاثة ‏الإنسانية، مما ترك المدنيين يعتمدون على التبرعات الخيرية ‏التي تقدّمها مجموعات من المتطوعين المحليين وغيرهم.‏

وذكر مسؤول إعلامي بقوات الدعم السريع إن القوات شبه ‏العسكرية حاولت السماح للجنة الدولية للصليب الأحمر بإجلاء ‏الأسر، لكن الجيش أحبط هذه الجهود واستخدم هذه الأسر ‏دروعا بشرية.‏

في المقابل، قال متحدث باسم الجيش إن الأسر محاصرة بسبب ‏الحرب، وإن قوات من سلاح المدرعات أدت واجبها لحماية ‏الأسر ومساعدتها مثلما فعل الجيش في مناطق أخرى طالها ‏الصراع.‏

وأشار ثليكادان الى أن الأعداد تتغير، لكن منذ آذار (مارس) ‏هناك نحو 30 امرأة إلى جانب 50 طفلا أعمارهم بين عامين ‏و15 عاما في المركز. وأكدت روايته راهبتان وأحد الإداريين ‏وأربع نساء من اللاجئات في المركز وقسّان آخران يتواصلان ‏باستمرار مع دار مريم وكذلك مسؤول في استخبارات الجيش ‏معني بالكنائس في الخرطوم.‏

ومعظم المقيمين في المركز من المسيحيين اللاجئين من ‏جنوب السودان وأثيوبيا، الذين نصبوا خياما من المفارش ‏البلاستيكية حول مباني المجمع الذي يشمل كنيسة ومجمعا ‏تعليميا ومبنى سكنيا.‏

وعندما يبدأ القتال في مكان قريب، يختبئ هؤلاء داخل المبنى ‏السكني. كما بحثت بعض الأسر السودانية المسلمة الفقيرة عن ‏مأوى مؤقت في المركز.‏

في انتظار الإجلاء
مزّق القصف في تشرين الثاني (نوفمبر) صورة مريم العذراء ‏في مدخل المجمع ودمر جزءا من أرضية الطابق الثاني للبناية ‏الرئيسية وأشعل النيران في السطح وأصيب الكثيرين بجروح ‏طفيفة.‏

ووضع قناصة قوات الدعم السريع مدخل دار مريم في ‏مرماهم. وقال ثليكادان إن صبيا من الحي قتل بشظية من ‏قذيفة مورتر اخترقت رأسه بعد أن ساعد في فتح مخرج خلف ‏المجمع لتجنب نيران القناصة.‏

وقالت الأخت مريم وهي من الراهبات لوكالة "رويترز" في ‏مكالمة عبر الفيديو إن من لاذوا بالمجمع "يحاولون النجاة من ‏الكثير من عمليات إطلاق النار والقصف".‏

وتابعت: "اعتدنا الأمر ولم نعد خائفين. الرب يحمينا لكننا في ‏انتظار الإجلاء".‏

وحول الأب ثليكادان والراهبات أكثر غرف المكان أمنا إلى ‏ملاذ لحماية الأطفال من تبادل إطلاق النار. ويحاولون صرف ‏انتباه الأطفال عن العنف الدائر حولهم بإتاحة مساحة لركوب ‏الدراجات في الباحة وتشجيعهم على الانشغال بألعاب فيديو.‏

وقال "حاولنا ألا نجعلهم يشعرون وكأنهم في سجن".‏
 
 

وفي مطلع كانون الثاني (يناير)، تعرّض المجمع لتبادل ‏لإطلاق النار مجددا مما تسبب في اشتعال النيران في سكن ‏الراهبات.‏

أما الحصول على الغذاء فهو يشكل تحديا. وبحلول أيلول ‏‏(سبتمبر) بدأت النقود تنفد وبات جلب الإمدادات من الأسواق ‏في المنطقة شبه مستحيل بسبب الاشتباكات.‏

وعادة ما كان الأطفال يتلقون كميات ضئيلة من العصيدة ‏والعدس والفول لكن المخزونات تناقصت بشدة.‏

وأضاف الأب ثليكادان أنه "منذ شباط (فبراير) أوصلت قوات ‏في معسكر سلاح المدرعات بعض المساعدات جوا لدار مريم ‏بما شمل السكر والوقود لمولدات سحب المياه من الآبار".‏

كما أتاح الجيش اتصالا عبر ستارلينك ليسمح لمن هم في ‏المجمع باستخدام هواتفهم. ونقلوا القس ومسؤولا إداريا مرتين ‏إلى بورتسودان، وهي مدينة على البحر الأحمر انتقل إليها ‏الجيش والحكومة، لمقابلة مسؤولين من الكنيسة وجمع بعض ‏الأموال والإمدادات.‏

وقالت الأخت سلستين، وهي راهبة أخرى، إنها لا تزال تشعر ‏بالخوف في كل مرة يهز فيها القصف المنطقة.‏

وتابع: "أود الخروج من هنا... أريد أن أخرج وأكتب كتابا عن ‏كل ما حدث".‏

وليس هناك مؤشرات تذكر على أن القتال سيهدأ.‏

ولفت الأب ثيلكادان في رسالة يوم 19 حزيران (يونيو) الى ‏أنه "كانت الأيام الأربعة الماضية صعبة علينا جميعا في دار ‏مريم والناس من حولنا، حيث أصبحت الانفجارات ‏والتفجيرات وإطلاق النار وما إلى ذلك أكثر شدة وتواترا... ‏من فضلكم واصلوا الدعاء والصلاة من أجلنا".‏
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium