النهار

"النهار العربي" يرصد تقنياً "اختفاء" أشجار القاهرة... ووزيرة البيئة تعلّق
القاهرة - عبدالحليم حفينة
المصدر: النهار العربي
في غضون سنوات قليلة، تحولت شوارع بأكملها في مدينة القاهرة إلى "صحراء أسفلتية"؛ بعد إقدام الحكومة المصرية على قطع آلاف الأشجار في عدد من الضواحي التي امتدت إليها أيدي التطوير والتنمية، مثل مدينة نصر، ومصر الجديدة، والمعادي، والبساتين وغيرها.
"النهار العربي" يرصد تقنياً "اختفاء" أشجار القاهرة... ووزيرة البيئة تعلّق
تكشف صور الأقمار الاصطناعية اختفاء الأشجار من شوارع بأكملها في القاهرة
A+   A-

في غضون سنوات قليلة، تحولت شوارع بأكملها في مدينة القاهرة إلى "صحراء أسفلتية"؛ بعد إقدام الحكومة المصرية على قطع آلاف الأشجار في عدد من الضواحي التي امتدت إليها أيدي التطوير والتنمية، مثل مدينة نصر، ومصر الجديدة، والمعادي، والبساتين وغيرها.

تُرجع الحكومة المصرية عملية قطع الأشجار المتكررة إلى ضرورات تتعلق بالتنمية داخل المدن المزدحمة وعلى رأسها العاصمة، وتقول إنها تزرع مسطحات خضراء بديلة في المدن الجديدة، فيما يرى خبراء أن التنمية يجب ألا تتعارض مع حق المواطنين في وجود مساحات خضراء بالقرب من محل سكنهم، وأن المسطحات البديلة لا تعوض المواطنين داخل المدن القديمة عن الأشجار المفقودة.

 

وكشف تحليل أجراه "النهار العربي" لصور الأقمار الصناعية، عن حجم التغيير الذي طرأ على المساحات الخضراء في القاهرة منذ حزيران (يونيو) 2017 إلى حزيران (يونيو) 2024؛ حيث تكشف الصور الملتقطة من الفضاء اختفاء الأشجار بعد أعمال التوسعة والتطوير التي انطلقت في الأعوام القليلة الماضية.

 
طبقاً للصور الفضائية التي يوفرها برنامج مراقبة الأرض التابع للاتحاد الأوروبي (كوبرنيكوس)، فإن الأشجار اختفت من شوارع كاملة في ضاحيتي مدينة نصر، ومصر الجديدة، وبالمقارنة بين الصورة الملتقطة في 28 حزيران (يونيو) 2017، وبين أخرى بتاريخ 16 حزيران (يونيو) 2024 يتضح الفرق بالعين المجردة.
 

صور الأقمار الاصطناعية لمنطقتي مصر الجديدة ومدينة نصر (كوبرنيكوس)

 

تكشف مقارنة أخرى بجنوب القاهرة اختفاء الأشجار، بالإضافة لمساحات خضراء في منطقة المعادي وبعض المناطق الشعبية المتاخمة لها، مثل حدائق المعادي، ودار السلام، والبساتين.

 

ووفق المادة 45 من الدستور المصري "تكفل الدولة حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المعرض منها للانقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، وذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون".


وفي دراسة نشرت بدورية "نيتشر" عن كثافة الأشجار عالمياً، رصد باحثون في جامعة ييل الأميركية تراجع نصيب الفرد في مصر من الشجر إلى واحدة فقط، مقارنة بقرابة 9 آلاف شجرة للفرد في كندا، وأكثر من 100 في الصين، ووصلت كثافة الأشجار إلى 69 شجرة لكل كيلومتر مربع عام 2015.

 

صور الأقمار الاصطناعية لمنطقة المعادي والمناطق المجاورة لها (كوبرنيكوس)

 

دوافع حكومة

بحسب إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (2020)، وصلت مساحة المتنزهات والحدائق العامة في مصر، بما فيها حدائق الحيوان والأسماك إلى حوالي 17 ألف كيلومتر مربع، وبذلك يصبح متوسط نصيب الفرد من المساحات الخضراء 17 سنتيمتراً، في المقابل تقول الهيئة العامة للاستعلامات في مصر إن نصيب الفرد من المساحات الخضراء يقدر بنحو 1.2 متر مربع.

 
ورغم زيادة إجمالي المسطحات الخضراء في آخر إحصاء للجهاز (2021) إلى 21 ألف كيلومتر مربع، إلا أن مساحات الحدائق والمتنزهات العامة داخل المدن تقلصت بشدة لتصل إلى نحو 7 آلاف كيلومتر مربع، بعدما قُدرت مساحاتها بحوالي 20 ألف كيلومتر مربع عام 2018.

ويرى محمد كمال، المدير التنفيذي لمؤسسة "جرينش"، وهي مؤسسة تنشط في مجال الحفاظ على البيئة، أن المساحات الخضراء تحظى بالاهتمام في المناطق والمدن الجديدة أكثر من المناطق الحضرية القائمة.

وعن أسباب تقلّص المساحات الخضراء داخل المدن يقول كمال لـ"النهار العربي" إن "المناطق القائمة تعاني من التكدس المروري، ما ينعكس سلباً على الاقتصاد، وهناك مؤشر اقتصادي يعرف باسم "المسافة إلى العمل" - وهو معني بقياس وقت الوصول إلى العمل - وكلما زاد الوقت، تراجع المؤشر"، ويلفت إلى أن "الحكومة تضع نصب أعينها مؤشرات التنمية الاقتصادية. تقليل الازدحام المروري والمدة المستغرقة للنقل يحسن الأداء المحلي لهذا المؤشر، ويشجع النشاط الاقتصادي".

إلى جانب العامل الاقتصادي الذي يترجم في توسعة الطرق وإزالة الأشجار والمسطحات الخضراء داخل المدن، ثمة سبب آخر. ويشير محمد كمال إلى أن "ندرة الأراضي تدفع إلى استغلال المتوافرة في أنشطة اقتصادية أخرى".

 

تكشف البيانات الحكومية تراجع مساحة الحدائق العامة والمتنزهات

 

 فوائد بيئية واقتصادية

لكن المدير التنفيذي لـ "جرينش" يرى أن الدوافع الحكومية لا تبرر أبداً تقليص المساحات الخضراء داخل المدن القائمة، ويقول: "من حق كل إنسان أن يكون حوله مساحة خضراء، لأسباب صحية وبيئية، إذ إن الشجر يساعد على تخفيف التلوث وتنقية الهواء".

وتبين الأبحاث العلمية أنه بإمكان الأشجار في داخل المدن خفض درجة حرارة الهواء بمقدار درجتين إلى ثماني درجات مئوية. وتوفر الأشجار ظلاً ضرورياً للأرض والمباني، ما يقلل من استهلاك الطاقة، حيث يمكن للأشجار المزروعة بشكل صحيح حول المباني تقليل احتياجات تكييف الهواء بنسبة 30 بالمئة، ما قد يوفر من تكلفة تشغيل تكييف الهواء بنسبة 20-50 بالمئة.

كما تُنقي الأشجار الهواء من الملوثات، من طريق امتصاص الغازات الملوثة من الجو، وتصفي أوراق الأشجار الجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء، مثل أدخنة عوادم السيارات والغبار عن طريق احتجاز الأوراق لتلك الجسيمات.

ويؤكد كمال أنه "للأشجار فوائد اقتصادية، وليست بيئية فقط. لكل شجرة ومنطقة خضراء عائد اقتصادي يمكن حسابه ومقارنته بالعائد من وراء المشروعات التنموية، وعندها تتضح قيمة الأشجار. هناك دول كثيرة اتبعت هذا النهج، مثل هولندا؛ حيث عانت أمستردام من الزحام في السبعينات، ثم عالجت الحكومة المشكلة بطريقة تعتمد على التخطيط المستدام، والاهتمام بالمساحات الخضراء".

قطعت آلاف الأشجار داخل المدن المصرية ضمن أعمال توسعة وتطوير الطرق

 

أشجار بديلة

تقول الحكومة المصرية إنها تزرع مساحات خضراء بديلة في المدن الجديدة؛ لتعويض المسطحات المتضررة داخل المناطق الحضرية القديمة، وفي هذا الصدد يعدد المسؤولون المشروعات الخضراء، مثل النهر الأخضر في العاصمة الإدارية الجديدة، والحدائق العامة في المدن الجديدة، فضلاً عن إطلاق الاستراتيجية الوطنية لتغيير المناخ 2050، التي تتضمن الحفاظ على المساحات الخضراء والتوسع بها.

 
ومن جانبه، يقول الدكتور محمود فتح الله، مدير إدارة شؤون البيئة والأرصاد الجوية بجامعة الدول العربية لـ"النهار العربي" إن "تعويض المساحات الخضراء التي تزال من بعض المناطق، بإضافة مساحات خضراء جديدة في مناطق أخرى هو أمر مناسب لتعويض الأثر الكلي لانبعاثات الكربون على مستوى الدولة، إلا أن التفاوتات بين المناطق المختلفة تبقى كبيرة، ويظل سكان المناطق التي تقطع فيها الأشجار في وضع نسبي أقل من وضعهم السابق".
 

ويوضح: "عندما تزال الأشجار من منطقة ذات كثافة سكانية مرتفعة، ثم نتجه لزراعة أشجار أخرى في مناطق سكنية جديدة، يصبح هناك تخوف من تأثيره على مفهوم التوازن البيئي جغرافياً، بسبب إزالة المساحات الخضراء من الضواحي القديمة، ثم تزرع مساحات أخرى في مناطق حديثة ذات كثافة سكانية منخفضة".

 

ويشير فتح الله إلى أن "تقييم الأثر البيئي لعملية قطع الأشجار لصالح توسعة طريق بهدف حل أزمة مرورية مسألة معقدة وليست سهلة، حيث إننا بحاجة لمعرفة حجم الخسائر البيئية الناتجة من قطع الأشجار، ومقارنتها بالنفع البيئي المترتب على خفض الانبعاثات الكربونية بعد تحسين السيولة المرورية، فإن كان حجم النفع أكبر من حجم الضرر يكون بذلك الأثر البيئي لقطع الأشجار وتوسيع الطريق إيجابياً، وإن كان عكس ذلك نصبح أمام ضرر بيئي على سكان المنطقة".

 

ويتابع: "نحن بحاجة إلى توافر قياسات رقمية دقيقة لإجراء هذا التقييم، وهذه الأرقام غير متاحة لدينا بالشكل الذي يمكن الاطمئنان إلى النتائج المبنية عليه. وفي النهاية فإن  تقييم الأمر عملياً يتطلب النظر إليه نظرة شاملة تأخذ في الاعتبار سياسات أخرى مكملة مثل حوافز الاستثمار في المشروعات الخضراء والسياسات الصناعية".

 

 

وزيرة البيئة ترد

من جهتها، ردت وزيرة البيئة المصرية الدكتورة ياسمين فؤاد على الانتقادات الموجهة للحكومة في تصريحات لـ"النهار العربي"، مؤكدةً أن "حماية البيئة وصون الموارد الطبيعية لا يتعارضان مع أهداف التنمية، وأن تحسين مستوى معيشة المواطن المصري، ومنها مراعاة الأبعاد البيئية في كل خططها التنموية، من ضمن أولويات الحكومة أثناء إعداد الخطط والسياسات التنموية".


وعن الإجراءات العملية التي تتخذها الحكومة في إطار تعويض الأضرار الناجمة عن قطع الأشجار، تشير فؤاد إلى أن "الدولة قد اتخذت إجراءات عدة، منها التوسع في الرقعة الزراعية والمساحات الخضراء، وإطلاق المبادرات، وأهمها مبادرة رئيس الجمهورية لزراعة 100 مليون شجرة، حيث بدأ تنفيذها بالفعل، فضلاً عن مبادرات زراعة الأشجار التي تتم بمشاركة مع المجتمع المدني وبعض المؤسسات بالدولة".

 

وبحسب الوزيرة المصرية، فقد شهد العامان السابقان زراعة ما يقرب من 12.400 مليون شجرة، ضمن مبادرة 100 مليون شجرة، وساهمت الأشجار المزروعة حديثاً في خفض ما يقرب من 310 ملايين كليوغرام من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون لكل عام.

 

وزيرة البيئة المصرية ياسمين فؤاد

 

وتقول فؤاد: "لعل هذه الجهود خير دليل على حرص الدولة المصرية على دمج الأبعاد البيئة في خطط التنمية، فليس من ضمن سياساتها قطع الأشجار، أو تقليل الرقعة الخضراء، وتسعى إلى الحد من الآثار الناتجة من التنمية، بما يحقق الموازنة بين أهداف التنمية ويحافظ على البيئة في الوقت ذاته، بما سيعود بالأثر الإيجابي على المواطن المصري خلال الفترة المقبلة".

 

وفي ما يتعلق بالحديث عن الأضرار الناجمة عن قطع الأشجار، تبرز الوزيرة أرقام الرصد التابعة لوزارة البيئة، إذ تقول: "بالنظر إلى بيانات الرصد ومقارنة الوضع قبل أعمال التطوير وبعدها، يتضح انخفاض ملحوظ للمتوسط العام لتركيزات الجسيمات الصلبة ذات القطر أقل من 10 ميكروميتر بمنطقة مصر الجديدة بشرق القاهرة على مدار عام 2021".

 

وبحسب البيانات التي تستند إليها فؤاد، فقد بلغت نسبة الخفض لتركيز المتوسط السنوي للجسيمات الصلبة 72 بالمئة لعام 2021 مقارنةً بعام 2018، إلى جانب انخفاض المتوسط العام لنتائج رصد الجسيمات الصلبة خلال فترة الخريف لعام 2021 بنسبة 59 بالمئة مقارنةً بعام 2018.

 

وبالنسبة للضوضاء، أظهرت قياسات شبكات الرصد البيئي أن إقامة الكباري المرورية في منطقتي مدينة نصر ومصر الجديدة، كان لها تأثير ملموس في انخفاض مستويات الضوضاء بالمنطقة المحيطة، خاصة خلال فترة النهار، نتيجة السيولة المرورية الناتجة من إنشاء هذه الكباري.

 
وبحسب منظمة صندوق الهواء النظيف، فإن المتوسط السنوي لتركيز 2.5 ميكرومتر أو أقل، على مستوى مصر عام 2019 أكبر بـ13.6 مرة من مستويات التركيز الموصى بها من منظمة الصحة العالمية لعام 2021، ويتركز في المدن الكبرى، لكن المنظمة الدولية تقول إن "الجهود الحكومية، بدعم من المانحين، أدت إلى تحسينات في جودة الهواء في القاهرة في السنوات الأخيرة، رغم أن الهدف النهائي لخفض مستوى التلوث لم يتحقق بعد".

 

 

اقرأ في النهار Premium