لم توفر نيران الحرب السودانية أي قطاع حيوي؛ لكن حصة المستشفيات كانت كبيرة وصادمة في بلاد يعاني القطاع الصحي فيها أساساً أزمات عديدة. فقد تعرضت المرافق الطبية للاستهداف والخروج عن الخدمة تكراراً، ما ضاعف أزمة الجرحى وكذلك المرضى الذي يتلقون العلاج دورياً.
فخلال عشرة أيام من اندلاع الحرب، أعلنت وزارة الصحة خروج أكثر من خمسين مستشفى جراء المواجهات والقصف المتكرر وانقطاع الكهرباء، كما سجلت حالات قنص خلال عمليات الإسعاف، وسقوط قذائف هاون على عشرات المستشفيات، حتى في المواقع التي بقيت بعيدة عن الاشتباكات، كحال مستشفى النو في أم درمان. وتلقت مواقع أخرى ضربات جوية وقصفاً مدفعياً كثيفاً، كما حصل في مستشفى شرق النيل الذي يتهم أنصار الجيش قوات الدعم السريع بتحويله إلى مركز لعلاج كبار القيادات فيه.
إخلاء تحت القصف
لا يزال الطبيب سيد طالب يتذكر بدقة ذكريات الأيام الخمسة الأولى في الحرب؛ يوم علق هو وزملاؤه في أحد مستشفيات الخرطوم، محاولين إجلاء المرضى من موقع إلى آخر من دون جدوى. يتحدث طبيب السنة الأخيرة في تخصص أمراض الجهاز التنفسي عن نيران الرصاص الكثيف التي اندلعت قرب "مستشفى الشعب" وسط العاصمة صباح الخامس عشر من نيسان (أبريل الفائت)؛ حينها اضطر هو وزملاؤه لنقل المرضى إلى مستشفيات مجاورة. غير أن الخطط لم تكن على ما كان يأمل الشاب العشريني "يقع أكبر مستشفيات الخرطوم في منطقة قريبة من القصر الجمهوري ومقر القيادة العامة؛ فكنا نسمع أصوات الرصاص وتحليق الميغ فوق رؤوسنا قبل أن نتخذ القرار بنقل المرضى إلى مشاف أكثر أمناًً"، يقول لـ"النهار العربي".
ويضيف طالب: "لكن أطباء مستشفى الخرطوم التعليمي ومثلهم في فضيل أعلمونا أن الاشتباكات قريبة؛ فبقينا في مواقعنا وتمكن بعض الأهالي من نقل مرضاهم ممن لم يحتاجوا إلى رعاية مكثفة. ومع انقطاع الكهرباء ونفاد مستودعات الوقود، كان الوضع يزداد سوءاً".
نجح الشاب بالخروج أخيراً بعد تغيير ملابسه خشية اكتشاف عناصر الدعم السريع أنه طبيب وهو ما سيقوده إلى مصير مشابه لمصير لزملاء علقوا في "مستشفى الساحة" على طريق مطار الخرطوم الدولي وتم احتجازهم لإرغامهم على علاج جرحى الحرب.
وبحسب معلومات من أطباء من مختلف التخصصات داخل الخرطوم وخارجها، فإن عدد المستشفيات التي لا تزال تعمل في العاصمة قليل جداً، ومعظمها تقدم خدمات بسيطة أو حتى بعض الإسعافات الأولية، لا سيما في الخرطوم وبحري؛ فيما تبدو الحال أفضل قليلاً في أم درمان.
الفاشر وود مدني بلا مستشفيات
تتشابه عاصمة ولاية الجزيرة وعاصمة شمال دارفور باستضافة عدد كبير من النازحين في الشهور الأولى للحرب، ما راكم أعباءً كبيرة على المستشفيات والمراكز الصحية. ووسط تبادل الاتهامات بين الجيش وقوات الدعم السريع بالمسؤولية عما جرى، باتت معظم المرافق الصحية في الفاشر خارج الخدمة؛ وآخرها "مستشفى جبل مرة"، ما وضع المرضى المزمنين في وضع لا يطاق، بحسب طبيب الأمراض الباطنية مجتبى عبد الله. فابن المنطقة يتحدث عن أزمة المصابين بأمراض الكلى بعد قصف المركز المخصص لجلسات الغسيل، ما وضعهم في حال صعبة.
مشهد مشابه في ود مدني التي كانت تضم أكبر مستشفيات متخصصة في القلب وأمراض السرطان، ولكن عمليات الاستهداف كانت تطالها باستمرار. وفشلت محاولات الكوادر الطبية في الاعتراض أو وقف العمل، بحسب طبيب يخفي اسمه حرصاً على سلامته، معقباً: "نقوم بعمليات الإنعاش وفق ما لدينا، والبنادق مصوبة على رؤوسنا. قد يتعرض أي طبيب للخطف أو الضرب، وحتى الإعدام، وقد فعلوا ذلك مع طبيب في الحصاحيصا تمت تصفيته أمام أولاده، وفي الأيام الأولى أؤكد أن معظم المراكز في ود مدني والحصاحيصا تم اقتحامها وسرقة ما فيها، بل خطف الكوادر الطبية فيها".