منذ ميلادها على شاطئ البحر المتوسط عام 1859، وبورسعيد محط الأنظار؛ فموقع المدينة على رأس أهم ممر ملاحي في العالم سلّط عليها أعين الأعداء الذين تربصوا بها واحتلوها مراراً، ومن هنا شكلت مقاومة الاحتلال وجدان أهل بورسعيد، الذين قاوموا بالبندقية تارة، وبالأغنيات الحماسية على أنغام السمسمية تارة أخرى.
ولعل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كان حدثاً فارقاً في تاريخ مدن القناة (بورسعيد، والإسماعيلية، والسويس)، فرغم الموقف العسكري الضعيف الذي بدا عليه الجيش المصري وقتذاك، إلا أن المقاومة الشعبية هبت لتواجه بشجاعة جيوش بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، ولا تزال الحكايات تروى عن ملاحم المقاومة حتى اليوم، وهو ما حاول مشروع "زي النهارده" توثيقه في مدينة بورسعيد.
وأطلقت مبادرة "بورسعيد على قديمه" مشروع "زي النهارده" لتقفّي أثر حكايات 1956 في شوارع المدينة ودروبها، ويشمل التوثيق الحياة اليومية لسكان المدينة أثناء حرب ذلك العام؛ لا سيما تهجير المصريين والأجانب، وتدمير أحياء بأكملها، إلى جانب أعمال المقاومة الشعبية، على ما تقول ميران شومان، مديرة المشروعات الثقافية في المبادرة لـ"النهار العربي".
يشار إلى أن حرب 56، التي تعرف غربياً بأزمة السويس، قد اندلعت في أعقاب تأميم الرئيس المصري (الراحل) جمال عبد الناصر شركة قناة السويس، لتصبح شركة مساهمة مصرية، الأمر الذي نتج عنه عدوان بدأ بهجوم إسرائيل يوم 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1956 على سيناء، ثم لحق به هجوم بريطانيا وفرنسا بعد يومين، بحجة حماية الملاحة في قناة السويس، وانتهت الحرب يوم 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1956 بعد ضغوط دولية كبيرة.
تطل بورسعيد على شاطئ البحر المتوسط وتقع على رأس قناة السويس
السمسمية والتوثيق
من بين المظاهر اللافتة في بورسعيد؛ روح أهلها المتيمة بالفن والمقاومة في آنٍ، ففي حفل السمسمية تجد كل الحاضرين من الأهالي يتفاعلون بالغناء والتصفيق الإيقاعي وأحيانا بالرقص، الكل يحفظ أغاني المقاومة ويرددها، وكأنها أناشيد الولاء للمدينة.
وهنا تشير شومان إلى مقولة شائعة في بورسعيد تقول "السمسمية تعطي الحق لمن هدر التاريخ حقه"، لافتة إلى أن السمسمية توثق أحداث التاريخ؛ لأن هذه الأغنيات كانت وسيلة الترفيه والتوثيق في الوقت ذاته، وتتضح هذه الحقيقة في كلمات أغاني مثل "بلدي يا بلد الفدائيين" و"زي النهارده"، إلى جانب أغنية توثق قضية مورهاوس، وهو أحد الضباط الإنكليز الذين اختطفتهم المقاومة، وتوفى في الأسر، وشغلت هذه القضية الرأي العام البريطاني.
يشار إلى أن السمسمية آلة عزف وترية تعود جذورها إلى مصر القديمة، وتستخدم بشكل شائع في مدن القناة، ولها في بورسعيد خصوصية شعبية؛ حيث تغنى معها الأغاني، خاصة المتعلقة بالمقاومة، وتصاحبها رقصة البمبوطية الشهيرة، ومن أشهر فرق السمسمية التاريخية في بورسعيد، فرقة الطنبورة.
توثق آلة السمسمية تاريخ بورسعيد بأغنيات شاهدة على الأحداث
عن عملية توثيق حرب 56 ذاتها تقول شومان إنها أُنجزت بالتعاون مع مؤسسة "كوليكتف رودز" وتضمنت خمسة محاور: اجتماعي، وعمراني، ومعماري، إلى جانب المقاومة الشعبية، والتهجير، وأن رحلة التوثيق بدأت من البحث في الكتب، وأرشيف الصحف، والمراسلات الشخصية (الجوابات)، بالإضافة إلى التوثيق من مصادر حية مثل مدام جوزيل، وهي سيدة يونانية من سكان بورسعيد وعايشت هذه الفترة.
تتابع ميران: "بعد مرحلة التوثيق أطلقنا مشروع الإقامة الفنية لتحويل منتجات التوثيق إلى أعمال فنية، واستمرت الإقامة الفنية إلى 10 أيام، وشارك فيها مبدعون من بورسعيد وخارجها، وأدار هذا المشروع فادي فيكتور، وهو أحد المبدعين المهتمين بصناعة الأفلام".
صورت منتوجات معرض "زي النهارده" مأساة التهجير
معرض فني
نتج عن مشروع الإقامة الفنية منتوجات إبداعية مثل: الصور، والحكايات، والمجسمات، والكتابات، وفيلم قصير، وقد جسدت الحياة اليومية في بورسعيد أثناء الحرب؛ وعُرضت جميعها في معرض فني يومي 12 تموز (يوليو) الجاري و13 منه، ومن بينها "ختم تفتيش"، الذي عملت على إنتاجه الروائية دينا شحاتة ابنة مدينة بورسعيد، وتضمن رسائل متخيلة كتبها أهل مدينة بورسعيد تحت الاحتلال.
وتقول شحاتة لـ"النهار العربي" إنها شاركت في مشروع "زي النهارده" بداية من مرحلة البحث والتوثيق التي تناولت المقاومة الشعبية وحياة المدينة والفن فيها، ثم شاركت في مشروع الإقامة الفنية بـ"ختم تفتيش".
وتشرح عن المشروع قائلة: "بعد دخول الفرنسيين والإنكليز بورسعيد عزلوا بالأسلاك الشائكة حي العرب وحي المناخ عن حي الإفرنج (الأجانب)، كان الجنود يطبعون أختامهم على معاصم سكان حي الإفرنج ليسمح لهم فقط بالخروج والدخول عبر الأسلاك الشائكة، من هذا المشهد استلهمت رسائل متخيلة يكتبها الأشخاص الذي كانوا يصطفون في طوابير ختم التفتيش، ما يدور في أذهانهم، وكيف كانت مشاعرهم في هذا الموقف".
تقول شحاتة إنها كتبت رسائل متخيلة على لسان أطفال وأجانب ومصريين من طبقات اجتماعية مختلفة، وإن خلفيتها الروائية ساعدتها في تقمص أرواح الشخصيات للتعبير عما يدور في دواخلهم تجاه تربص الاحتلال والحصار الذي فرضه على سكان الحي العربي وحي المناخ.
تجسد الخطابات المتخيلة معاناة أهالي بورسعيد وقت حرب 56
أحد أشكال استعادة روح المقاومة، جسدها في المعرض محمد سليم، وهو خطاط هاو؛ حيث استعاد الشعارات التي كانت تكتبها أيادي خطاطي المقاومة على الجدران؛ لإشعال الحماسة في صدور سكان بورسعيد في ذلك الوقت.
ويقول سليم لـ "النهار العربي": "اخترنا كتابة خمس جمل من أغنيات السمسمية؛ لأنها تجسد الفولكلور الشعبي البورسعيدي؛ إذ تحكي كل جملة مشهداً حقيقياً حدث أثناء في فترة العدوان الثلاثي، ومن بين هذه الجمل: "دي فرنسا كانت سالبانا والإنكليز مصوا دمانا" و"يوم الهجرة ده يوم مشؤوم أروح طنطا أو السلوم"".
ويلفت إلى أن خطاطي المقاومة كانوا يكتبون بخط الرقعة؛ لأنه يكتب سريعاً مقارنة ببقية الخطوط؛ فكانوا يسرعون للانتهاء من الجدارية قبل مرور دورية الاحتلال، وأنه اختار مع منسقي المشروع خط الرقعة ليمنح الروح والمظهر الفني نفسهما.
ويقول القائمون على مشروع "زي النهارده" إنه من المأمول أن يخرج من رحم المشروع مستقبلاً عدد من الكتابات التي توثق أحداث حرب 56 في بورسعيد، لتظل شاهدة على ملحمة بطولة وتضحيات قدمها سكان المدينة الذين ساقهم القدر ليكونوا دائماً في خط المواجهة على الحدود الشرقية للبلاد.