حدثت ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، خلال الأيام القليلة الماضية، بعد تداول صور ومقاطع فيديو لتعذيب قطط بطريقة وحشية، ويقوم بنشر تلك المقاطع على صفحته بموقع "فايسبوك" شخص يطلق على نفسه اسم "ابو نوح". هذه الضجة ليست الأولى من نوعها، فقد تكررت مراراً مع الكشف عن حوادث تعذيب وقتل للقطط والكلاب بلا رحمة.
لكن اللافت للانتباه، أن هذه الوقائع تأتي في وقت تنتشر المبادرات والجهود الفردية والجماعية لإطعام وإيواء تلك الحيوانات المنتشرة في شتى أرجاء مصر، وبات أمراً معتاداً أن ترى أشخاصاً يحملون طعاماً ويقدمونه للقطط والكلاب بشوارع القاهرة، وكذلك تزايدت أعداد أماكن إيواء تلك الحيوانات ورعايتها صحياً.
المشهدان المتناقضان يتكرران داخل المجتمع ذاته، ويتصاعدان بوتيرة تبدو متطابقة، وكأن تغيراً ما يحدث داخل المجتمع المصري، فمع ازدياد الضجيج الذي تحدثه وقائع العنف ضد الحيوانات، تتسع دائرة العناية والرحمة بهم في صمت.
ثمة تفسير نفسي وتربوي لهذه الوقائع حسبما تقول استشارية الصحة والإرشاد النفسي الدكتورة منى حمدي، تتعلق بالفرد وليس المجتمع. كما أن مدير مؤسسة الرفق بالحيوان في مصر بالأقصر أيمن بطرس يتفق مع هذا الرأي العلمي، مستندا إلى تجربته الشخصية والعملية في مجال الرفق بالحيوان، ويؤكد أن الميل للخير ربما يغلب كثيراً على الإيذاء والشر، وكلاهما يقوم به أشخاص من داخل المجتمع ذاته.
ملايين الكلاب والقطط
بحسب دراسة نشرها الدكتور حمدي عرفه أستاذ الإدارة المحلية والحكومية في عام 2018 فإن عدد الكلاب المشردة في شتى ربوع مصر يبلغ قرابة 22 مليوناً. وبينما لا توجد إحصائية موثوقة بأعداد القطط، إلا أن كثافة انتشارها، ربما يجعلها مرشحة لتجاوز أعداد الكلاب بكثير.
يقول عرفه لـ"النهار العربي": "لا ريب في أن أعداد الكلاب تزايدت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، لكن لا يمكنني أن أفصح عن رقم جديد الآن، لأن آخر تقدير توصلت إليه وفقاً للدراسة العلمية المنشورة، ولم أقم بدراسة جديدة، كما أن الجهات الرسمية لم تصدر أي إحصاءات بأعداد تلك الحيوانات خلال الأعوام الماضية".
ويضيف خبير المحليات: "كيف قمت بحساب الأعداد التي أعلنتها؟ يوجد في مصر 27 محافظة، و4726 قرية يتبعهم 131 ألف كفر ونجع وعزبة، وعدد المدن 184، والمراكز 216. لا يوجد شارع واحد بتلك الأماكن يخلو من مرور كلبين على الأقل يومياً، حتى لو في أرقى المناطق. على سبيل المثال الشارع الذي أسكن به في منطقة الهرم يمر عليه ما لا يقل عن 12 كلباً يومياً، وهذا يجعلنا نتوقع أن الأعداد تزايدت بشكل كبير، فعمر الكلاب قد يمتد لنحو 40 عاماً، كما أنها تنجب كثيراً".
قتل وإحياء
وقائع القتل والتعذيب تتكرر كثيراً، وربما يزيد من وتيرتها انتشار تلك الحيوانات في أماكن وجود البشر. وقد روت سيدة كانت ترعى القطط المشردة بجوار مسجد الرحمة في وسط القاهرة لـ"النهار العربي"، أنها كانت تجد قططها ميتة بجوار المسجد، أو تنازع الموت بسبب السم الذي وضعه لها أشخاص لا تعرفهم السيدة ولا تفهم دوافعهم.
كذلك، هناك حوادث شهيرة إعلامياً مثل تسميم قطط نادي الجزيرة بالقاهرة، وتصوير أحد الأشخاص يشنق كلباً على شجرة بحجة أنه يخشى على أسرته منه.
رغم الضجيج الذي تحدثه تلك الوقائع البشعة، فإن هناك الكثير من المصريين الذين وفروا أماكن لإيواء مئات وربما آلاف من حيوانات الشوارع.
ويقول مدير مؤسسة الرفق بالحيوان في مصر بالأقصر أيمن بطرس لـ"النهار العربي": "لا يمكن اعتبار حوادث تعذيب القطط ظاهرة ترتبط بالمجتمع المصري، لأن المجتمع ذاته ينتج أشخاصاً يسخرون وقتهم وجهدهم وأموالهم لإنقاذ الحيوانات وتقديم الطعام والمأوى لها".
ويضرب بطرس مثالاً يؤكد به رأيه: "قبل بضع سنوات، كانت ثمة جهات رسمية تقوم بقتل كلاب الشوارع بوضع السم لها في الطعام، وقد شاهدت بعيني رجلاً يتتبع السيارة التي تضع السم بسيارته الملاكي، ويقوم بجمع الطعام المسموم حتى لا تقتل الحيوانات، وكان هذا قرب الساعة 3 فجراً، وقد قمت بمساعدته، وحدثت مشادة كلامية حادة بيننا وبينهم".
يرجع مدير مؤسسة الرفق بالحيوان بالأقصر العدوان الذي يقوم به بعض الأشخاص إلى مشاكل نفسية خاصة، وإلى غياب الوعي بطبيعة تلك الحيوانات البريئة، ويقول: "إن كلب الشارع الذي يغضب بعض الناس منه لأنه ينبح عليهم ويهاجمهم، أو يقوم بعقرهم في بعض الأحيان، هو كائن مسكين جداً، كل ما يحتاجه منك هو قطعة طعام تسد جوعه، وإن لم تقدمها له، فقط اتركه في حاله. نباح تلك الحيوانات على البشر ناتج من تجاربهم معهم، الكلب يجد نفسه يضرب دون سبب، هذا يضربه بعصا، وهؤلاء أطفال يقذفونه بالطوب، لذا بات يتوقع أن أي إنسان يقترب منه يريد إيذاءه".
ويواصل بطرس حديثه: "لهذا نحن في مؤسستنا نقوم كل أسبوع باستضافة العشرات من أطفال المدارس، خصوصاً تلامذة الصف الأول الابتدائي، وذلك لننشر الوعي بينهم بطبيعة هذه الحيوانات المسكينة، حتى يكبروا وهم يشعرون بالتعاطف معها والرحمة بها".
قسوة وتعاطف
من جانبها تقول حمدي لـ"النهار العربي": "الأشخاص الذين يقدمون على إيذاء حيوان والتلذذ بتألمه، سواء بشكل غير مباشر مثل إهماله أو تركه دون طعام، أو بشكل مباشر مثل تعذيبه، يصنفون وفقاً لعلم النفس بأنهم سيكوباثيين (Psychopathic)، وهم الأشخاص الذين يقدمون على أفعال تخلو من الضمير والتعاطف والرحمة".
وتضيف الاستشارية: "علميا فإن هؤلاء الأشخاص، وكذلك من يقومون بإيذاء البشر، يكون لديهم مشكلات في بعض أجزاء المخ، مثل اللوزة الدماغية (Amygdala) وهي المسؤولة عن تفعيل مشاعر الخوف أو النفور أو الغضب عند رؤية ذبح أو دماء أو ما شابه. عند هؤلاء الأشخاص يكون هناك اضطراب في وظيفة هذا الجزء، لذا حين يرون مشاهد مروعة لا يشعرون بالخوف أو التعاطف".
وتشير حمدي إلى أن "المادة الرمادية بالمخ لدى هؤلاء يكون فيها نشاط مفرط، وهذه هي المادة المسؤولة عن التعاطف والرحمة عند الإنسان، لذا فهم لا يشعرون بالرأفة والتعاطف وتأنيب الضمير، بل يتلذذون بإيذاء الحيوانات، ويكون لديهم دائرة كيميائية تسبب إدمان الألم للآخرين، فتفرز لديهم هرمونات السعادة في حالة رؤية الآخرين يتعذبون".
وإلى جانب هذا الخلل الفسيولوجي الذي غالباُ يكون وراثياً، فأن ثمة تأثير كبير للتربية في الصغر، وعن هذا تقول: "للتنشئة دور مهم للغاية، فالتعرض للقسوة والإهمال في الطفولة، وخصوصاً الاعتداء الجنسي أو الجسدي، يزيد استعداد هؤلاء الأشخاص لأن يكونوا سيكوباثيين، وهذا السلوك يعد تنفيساً لما يدور بداخلهم، فهم بتلك الأفعال يعيدون إنتاج الألم الذي تعرضوا له ولكن للآخرين، كما يشعرهم هذا بالقوة في مواجهة مخلوقات ضعيفة".
أما بالنسبة للأشخاص الذين يتعاطفون مع الحيوانات، فهم على عكس ذلك تماماً، حسبما تقول الاستشارية النفسية: "إنهم يكونون متعاطفين (Empathic)، وتكون المادة الرمادية نشطة بدرجة تجعل التعاطف والرحمة لديهم بمستويات عالية جداً، وما يشعرهم بالألم والحزن وتأنيب الضمير إذا رأوا حيواناً يحتاج للمساعدة، ويدفعهم لمساعدته".