فرضت التطورات الجيوسياسية على القاهرة وأنقرة تسريع خطوات التقارب مع مساع تركية لخلق زخم ومحور إقليمي جديد في المنطقة، بعدما أثمرت جهودها للتطبيع منذ عام 2020 تطوراً كبيراً في العلاقات، الاقتصادية منها خاصة، بعد انقطاع التواصل الدبلوماسي في عام 2013.
وفيما شكّلت ملفات التجارة والطاقة والأمن العناوين الأبرز للاتصالات التي أجريت بين الجانبين خلال السنوات الأخيرة، فرض الواقع الجديد الناشئ بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 على القاهرة وأنقرة رفع مستوى التنسيق إلى الشراكة وسط اختلاف في الأولويات.
مصر تركّز على الاقتصاد
في المؤتمر الصحافي المشترك بين وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ونظيره التركي هاكان فيدان في القاهرة، ركّز الجانبان على ثقل البلدين كقوّتين إقليميّتين، ما يشير بوضوح إلى الرغبة الثنائية في لعب أدوار سياسية أكبر وتوسيع مساحة نفوذ البلدين الإقليمي عبر قطع الطريق أمام لاعبين آخرين ساعين لمثل هذه الأدوار أحياناً، والتعاون مع القوى الفاعلة والمؤثرة في المنطقة أحياناً أخرى.
استعرض الوزير المصري الملفات الثنائية التي نوقشت خلال اللقاء، مقدماً عرضاً مقتضباً لبعضها ومركزاً على الاقتصاد بهدف رفع التبادل التجاري بين البلدين إلى 15 مليار دولار. وذكّر بالمزايا الاقتصادية والربحية التي تؤمنها مصر للمستثمرين الأتراك.
جذبت مصر اهتمام المستثمرين والصناعيين الأتراك منذ عام 2008 كبوابة رئيسية للانفتاح التجاري التركي نحو أفريقيا، كما مثّلت اتفاقية التجارة الحرة المصرية مع الولايات المتّحدة خاصة فرصة استثنائية للمنتجين الأتراك المستثمرين في مصر لتصدير منتجاتهم إلى الولايات المتّحدة معفية من الضرائب مقابل ضرائب تتراوح بين 20 و35% في حال تصديرها من تركيا.
ودفع إعلان المصرف المركزي المصري سياسات دولرة الجنيه من خلال رفع أسعار الفائدة والسماح بتحديد قيمة العملة المحلية في السوق، وتوقيع الحكومة المصرية اتفاقية ديون بقيمة 8 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي، مقابل ارتفاع نسب التضخّم والضرائب في تركيا وإصرار حكومة أنقرة على احتفاظ الليرة بقيمة سوقية أعلى من قيمتها الحقيقية، المزيد من المستثمرين والصناعيين الأتراك على نقل أعمالهم ومعاملهم إلى مصر.
يقول رئيس جمعية المصدرين الأتراك مصطفى غولتيبي إن "الظروف الاقتصادية في تركيا خلال العامين الأخيرين أفقدت الشركات المحلية القدرة التنافسية في السوق العالمية، لتغدو مصر من أهم الوجهات التي جذبت الشركات التركية".
وتعد تركيا رابع أكبر شريك تجاري لمصر، في ظل تسارع تطور العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وتجاوز حجم التجارة المتبادلة 10 مليارات دولار.
ويعتبر قطّاع النسيج التركي الأكثر هجرة إلى مصر التي توفّر مزايا للمستثمرين الأتراك منها العمالة الرخيصة مقارنة بتركيا، وفرص تصدير لوجهات أكثر. وأعلن رئيس اتحاد عمال الغزل والنسيج رافي آي أن "عدد مصانع النسيج المنتقلة إلى مصر هرباً من ظروف الإنتاج السيئة في تركيا وصل إلى 130 مصنعاً في عام 2023، ما تسبب في فقدان 90 ألف عامل تركي وظائفهم".
تعتبر الباحثة التركية في السياسات الأفريقية نباهات تانريفيردي ياشار زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مصر في غاية الأهمية، لأنها أول اتصال رفيع المستوى منذ تولي وزير الخارجية المصري الجديد منصبه.
وتشرح ياشار العاملة في عدد من مراكز الدراسات في تركيا وألمانيا في حديث إلى "النهار العربي" أنّه "خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مصر، وقع البلدان العديد من الاتفاقيات التي تهدف إلى تعميق العلاقات الثنائية، بخاصة في المجال الاقتصادي. وتهدف زيارة فيدان إلى الحفاظ على هذا الزخم وتعزيز هذه العلاقات".
وتضيف ياشار: "خلال زيارة أردوغان القاهرة في شباط/ فبراير، وقعت تركيا ومصر إعلاناً مشتركاً بشأن انعقاد مجلس التعاون الاستراتيجي الرفيع المستوى بقيادة الرئيسين، واتفق وزير الخارجية هاكان فيدان مع نظيره المصري سميح شكري بشأن انعقاده. وكانت تحضيرات انعقاد هذا المجلس وتنظيمه في تركيا في مقدمة أجندة لقاءات فيدان بالأمس".
مصر بوابة أنقرة إلى ملفات الشرق الأوسط وأفريقيا
بالإضافة إلى نظرة أنقرة إلى القاهرة كجسر سياسي واقتصادي لها نحو القارة السمراء، فإن الثقل السياسي المصري في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا، وتأثيرها على الملف الفلسطيني خاصة، يجعلان من العلاقة مع مصر شرطاً لا غنى عنه بالنسبة إلى تركيا للعب أدوار إقليمية، خصوصاً بعد تراجع فعاليتها وتأثيرها خلال السنوات الأخيرة نتيجة المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة والأزمة الاقتصادية العاصفة بالبلاد.
وتعتقد ياشار أن "الوزير فيدان ناقش الاستعدادات لزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تركيا في نطاق اجتماع المجلس الاستشاري الأعلى. ومن شأن هذه الزيارة المتوقعة أن تعزز سياسة تركيا الخارجية الرامية إلى تطبيع العلاقات مع منافسيها الإقليميين".
ومع تصاعد الحرب بين إسرائيل و"حماس"، تركّزت الأنظار أكثر على مصر، ليس فقط لدورها الرئيسي منذ عقود في الوساطة بين إسرائيل والفلسطينيين، بل لاشتراكها أيضاً بالحدود البرّية الوحيدة مع قطاع غزة عبر بوابة رفح الحدودية، التي تعتبر رئة القطاع للتنفس وبوابته الوحيدة على العالم.
وتحرم مهمّة الوساطة القاهرة من إمكان الاضطلاع بأدوار أخرى شعبوية، وتحول دون استخدامها لغة أكثر تشدداً وتصعيداً ضد تل أبيب، ما يؤدي إلى جذب ردود فعل شعبية مستاءة، فرغم الخطاب الرسمي المصري المركّز على رسائل الدعم للفلسطينيين، إلا أن القاهرة تتعامل بحذر مع لهجة التصريحات المتّهمة لإسرائيل.
في المؤتمر الصحافي المشترك، استهدف فيدان إسرائيل استهدافاً مركّزاً، مختاراً القاهرة منبراً للإعلان عن نيّة بلاده وضع قرارها الانضمام إلى الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية، موضع التنفيذ خلال أيام.
وتسعى تركيا إلى لعب أدوار أكثر وضوحاً في ملف حرب غزة وتحقيق وقف لإطلاق النار، بعد تجاهل غربي-إسرائيلي لنفوذها على "حماس" وحثّها على ممارسة الضغوط بدلاً من التركيز على هذا التأثير والنفوذ للعب دور وساطة تسعى إليها أنقرة في سياستها الخارجية لتعزيز البعد الدبلوماسي لسياساتها الإقليمية التي اتسمت بالعسكرة لفترة طويلة.
وزادت الرغبة التركية في الوجود إلى طاولة المفاوضات بعد إشارات الامتعاض الصادرة عن الدوحة من الضغوط الأميركية والإسرائيلية عليها لإتمام صفقة وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين، لكن هذه الرغبة اصطدمت بتجاهل إسرائيلي-أميركي، ما دفع أنقرة إلى رفع حدّة خطابها المستهدف لتل أبيب.
رؤية تركية مصرية لإدارة الصراعات
تسعى تركيا من خلال تعزيز تعاونها مع القاهرة إلى حجز مقعدها إلى طاولة التفاوض بشأن حرب غزة، والأهم في مستقبل فلسطين بعد اليوم التالي لانتهاء الحرب وهندسة المنطقة سياسياً وعسكرياً عامةً، وهي إذ تأمل من مصر دعمها في هذا السياق فإنها تبدو مستعدّة للعب أدوار وساطة، بل حتى تقديم تنازلات في ملفّات حساسة بالنسبة إلى مصر كما إلى ليبيا وسد النهضة الإثيوبي والقرن الأفريقي وغيرها.
وترى ياشار أن "زيارة فيدان ستسهم في بناء رؤية وأرضية مشتركة مع مصر في ما يتعلق بإدارة الصراعات الإقليمية، بخاصة في ليبيا وغزة والسودان. وبالنظر إلى أن وزير الخارجية التركي كان في أديس أبابا قبل وصوله إلى القاهرة، فمن المحتمل أن تكون في جعبته أيضاً خطة لبحث إمكان لعب أنقرة دور وساطة في أزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا".
وتسهّل الشراكة الدبلوماسية بين مصر وتركيا التقاء الفرقاء الليبيين في ظل محاولة كل الفاعلين في الملف الليبي الانفتاح على الطرف المحلي الآخر. وقابلت أنقرة السعي المصري للانفتاح على حكومة طرابلس والجهات الفاعلة في غرب البلاد، بالتواصل مع بنغازي. ولا يمكن تصوّر إتمام المصالحة الليبية من دون توافق مصري-تركي يمهّد لعقد صفقات إقليمية ودولية أوسع.
وتدفع الدبلوماسية المعقّدة والمتشابكة أنقرة إلى توسيع شراكاتها الإقليمية سعياً منها إلى تحقيق التوازن مع مجموعة متنوعة من الدول المتنافسة، ومنها مصر بطبيعة الحال، التي تستحوذ على أفضلية العلاقات المستقرة مع كل من أفريقيا والغرب والشرق الأوسط.
ومع نجاح البلدين في تجاوز العديد من العقبات أمام التقارب السياسي، تبدو كل من أنقرة والقاهرة عازمة على تطوير القدرة وأدوات العمل المشترك، سواء لناحية التعاون الإقليمي أو الشراكة التجارية لتحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية المأمولة وموضع الحاجة للجانبين.