لم ينجُ القطاع التعليمي في السودان من آثار الحرب التي قضت ليس فقط على الصروح الجامعية والأكاديمية في البلاد، بل على مستقبل مئات الآلاف من الطلبة الذين بات مصيرهم في مهب الريح جراء صعوبات استكمال الدراسة أو العودة إلى نقطة الصفر في الخارج.
خيارات صعبة
استبشر علي ياسين يوم أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي استئناف الدراسة في الجامعات مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، فطالب كلية الإعلام في جامعة "الجزيرة" كان على وشك تقديم الامتحانات النهائية قبل اندلاع الحرب، غير أنّ للنار والبارود حسابات لم تتوافق مع طموحات الشاب الذي تبعد جامعته عن ود مدني 25 كيلومتراً. لقد شهد علي وصول الحرب والدمار إلى المدينة وانهيار أحلامه الأكاديمية، لينزح مع أسرته إلى القضارف ثم إلى بورتسودان محاولاً استكمال الدراسة في جامعة خارج البلاد، ليواجه معضلة أصعب تتمثّل باستخراج السجّل الأكاديمي وما يثبت دراسته، فاضطر أخيراً للعودة إلى نقطة الصفر وبدء الدراسة بجامعة خاصة في تركيا.
المشهد قد يبدو أفضل قليلاً بالنسبة إلى سمية محمود، فطالبة الطب في جامعة الخرطوم التي نجت بأعجوبة من القصف العشوائي بداية الحرب، نجحت في التقدم لامتحانات السنة الخامسة بمدينة عطبرة في ولاية نهر النيل. تصف طالبة أقدم جامعات السودان ما حصل بالمعجزة، مضيفة لـ"النهار العربي": "كان لدي خياران: إما السفر إلى الخارج والبدء من الصفر وإما انتظار حلّ ما قد يأتي. ليتمّ إبلاغنا بمراكز تقديم امتحانات في كسلا وعطبرة، فتمكنت من إنهاء السنة الدراسية، بينما انتظر تسلّم كشف للدرجات وما يفيد بتسجيلي في حال حدوث أي طارئ".
سنوات التعطيل المديدة
ولعلّ الأزمة الأخيرة للطلبة لم تكن إلا إحدى حلقات سلسلة مطبات تعرضوا لها طيلة السنوات الخمس الماضية، بداية من التوقف المتكرر للعملية الدراسية خلال الاحتجاجات التي أطاحت حكم عمر البشير، ثمّ حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي، لتتبعها جائحة كورونا. وفي مطلع العام 2023، فجّرت الجامعات السودانية أزمة جديدة مع رفع الرسوم الدراسية بنسبة عالية وصلت إلى 500 ألف جنيه لكلية الطب (ألف دولار أميركي في ذلك الوقت) بالنسبة إلى جامعة الخرطوم الحكومية. أما المؤسسات الخاصة، فرفعت التكاليف بنسبة 300 إلى 1000 بالمئة، بحسب طلاب يدرسون فيها، بينما ترتفع هذه الأرقام إلى الضعفين بالنسبة إلى الطلاب الأجانب.
وتردّد في ذلك الوقت أنّ سبب الرسوم العالية - قياساً إلى الحد الأدنى للأجور - سببه تخفيض وزارة المالية حجم الدعم المقدّم للجامعات بنسبة ثلاثة أرباع ما كانت تسدده، ما أثار جدلاً واسعاً قبل أسابيع من اندلاع الحرب.
التعليم عن بعد
يضم السودان قرابة 60 مؤسسة تعليمية متنوعة بين القطاعين الحكومي والخاص، وتتوزع الجامعات في مختلف ولايات السودان، لكن 60% منها تقع مقارها الرئيسية ضمن العاصمة، وقد نجحت في استقطاب العديد من الطلبة العرب ومن دول أفريقية لاستكمال تعليمهم في العقود الماضية. وتعد جامعة الخرطوم، التي تأسست عام 1902، واحدة من أعرق المؤسسات التعليمية في الوطن العربي وأفريقيا، وكان عدد طلابها يقارب 23 ألف طالب في أكثر من 20 كلية. يقع مركزها الرئيسي في وسط العاصمة ويُعدّ من المعالم الرئيسية للبلاد، بينما تتوزع الكليات بين مدن الخرطوم وبحري وأم درمان.
وبحسب إداري في الجامعة، فضّل عدم ذكر اسمه، فإنّ حجم الدمار الذي لحق بالكليات لا يمكن تقييمه بسبب ظروف الحرب، غير أنّ المعلومات تفيد بضرر واسع لحق بالكليات الطبية ومجمع التربية في أم درمان.
ويشير الإداري إلى إعداد خطة لاعتماد التعليم عن بعد بانتظار استقرار الأوضاع. ويلفت إلى اتفاقيات نجحت البعثات الدبلوماسية للسودان في كلّ من مصر والسعودية بالتجاوب معها لفتح مراكز امتحانات للطلبة المقيمين في القاهرة والرياض، ما "أنقذ بدوره نسبة لا بأس بها من خيار نهاية مستقبلهم الأكاديمي".
الخيار الأخير لمعظم الجامعات، لم يكن الحلّ الأفضل، ولكنه "الوحيد المتاح لاستمرار عملية التعليم"، بحسب الأستاذ الجامعي وليد خلف الله، الذي يشير إلى صعوبات كثيرة تبدأ من ضعف شبكات الاتصالات وتمتد إلى نقص الكوادر البشرية. ولكن البديل بحسب قوله، هو استمرار إغلاق الجامعات.
ويضيف لـ"النهار العربي": "لو استمرت الجامعات بإغلاق أبوابها بسبب الحرب، كيف سيكون مصير طلاب هم مسؤولية الوزارة والمؤسسات العلمية؟ قد تطول الحرب، وبعد نهايتها ستكون عملية إعادة إعمار ما تهدم أكثر صعوبة وتستغرق وقتاً وتتطلب مالاً. فما ذنب الطلبة أن تتعطل حياتهم؟ ليس ذلك بالحل المثالي، ولكنّه الأفضل بين الأسوأ".
التصنيف الأكاديمي
كان لافتاً رغم الحرب أن تحتفظ الجامعات السودانية بنقاطها في التصنيف الدولي للجامعات بحسب موقع "ويبومترك"، فما زالت جامعة الخرطوم تحتل الرقم 1833 على المستوى العالمي كأعلى مؤسسات البلاد، تليها جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في المرتبة 2191، وجامعة النيلين 4929. أما بحسب تصنيف "كيو اس" الدولي، فإنّ جامعة الخرطوم تراجعت إلى المرتبة 1001-1200 عالمياً وفي المرتبة 81-90 عربياً، متراجعة عن أعلى سجل وصلت إليه في العام 2015 حين كانت في المرتبة 45 من أفضل الجامعات العربية، فيما غابت باقي المؤسسات السودانية عن هذا التصنيف.
وبالنسبة إلى موقع "تايمز" للتعليم العالي، فإنّ الجامعة السودانية الوحيدة التي تظهر في التصنيف الأكاديمي، هي الجامعة الوطنية التي أنشئت في العام 2005 وتأتي في المرتبة 1500 عالمياً.