تبدّدت آمال السودانيين بقرب نهاية الحرب بعد التصلُّب الحكومي الذي ظهر في الأيام الأخيرة، وسط نعي مفاوضات جنيف التي كان منتظراً أن تُحدث اختراقاً ما في جدار الأزمة الدائرة منذ أكثر من عام، فما الذي أجهض المبادرة الأميركية قبل أن تبدأ، وما الخيارات المتاحة أمام الجيش السوداني وقائده؟
الحكومة السودانية أعلنت صراحة عن عدم قناعتها بـ"جدوى إنشاء منبر جديد"، ورفضها مشاركة دول إقليمية بصفة مراقب، مشيرة إلى أنّ الجانب الأميركي لم يقدِّم ما يُبرِّر هذا المنبر. وأتى هذا في بيان أعقب تصريحات لوزير المعادن محمد بشير أبو نمو عن انتهاء المشاورات مع وفد أميركي في جدة تمهيداً لمفاوضات جنيف، من دون اتفاق على مشاركة وفد بلاده، لكنّه عاد ليترك الأمر "لقرار القيادة"، على حد تعبيره.
نقاط خلافية
في المقابل، أشار الفريق إبراهيم جابر، عضو مجلس السيادة الانتقالي، إلى استعداد السودان لرسم خريطة طريق لتنفيذ "اتفاق جدة"، ثم مناقشة رؤية البلاد لاستئناف أي محادثات من شأنها الوصول إلى السلام، بحسب بيان صادر عن المجلس، فيما ينتظر أن يعلن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان عن موقف نهائي حيال مباحثات جنيف، بعدما عاد إلى بورتسودان من جولة شملت أنغولا ورواندا.
وتقول مصادر سودانية متابعة لـ"النهار العربي" إنّ نقاطاً خلافية عدة كانت مثار جدال في مباحثات جدة، والتي تمت بناءً على طلب بورتسودان قبل اتخاذ القرار بقبول الذهاب إلى جنيف أو رفضه، ابتداءً بتمثيل الوفد الحكومي بوزير المعادن بدلاً من الخارجية، وانتهاءً بطرح توجيه الدعوة للحكومة، وليس للجيش. وفسَّرت المصادر ذلك بأنّ مناقشة بند وقف إطلاق النار تستوجب حضور طرفي النزاع، أي القوات المسلحة السودانية والدعم السريع، أما باقي البنود فتُبحث مع الحكومة.
إلا أن التشدُّد الأخير في المواقف قد يكون الهدف منه تحصيل مكاسب أكبر من الجانب الأميركي الراعي للمفاوضات، على غرار الاتصال الذي جمع البرهان بوزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، إذ خاطَبه بصيغة رئيس مجلس السيادة. ونفت هذه المصادر في الوقت ذاته أن يكون سبب التشدُّد الأخير تقارباً سودانياً - روسياً أو سودانياً – إيرانياً، بدأت ملامحه تتزايد من دون أن تصل إلى مرحلة التغيير الاستراتيجي.
أهداف واشنطن
يعتقد الكاتب والمحلل السياسي محمد عثمان إبراهيم أنّ فتح منبر جديد بديل لمنبر جدة يصب في مصلحة إطالة أمد النزاع المسلح في السودان. ويضيف لـ"النهار العربي": "إن كان المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة جاداً في إحلال السلام في السودان، فعليه التركيز على منبر جدة والبناء عليه وتوحيد المنابر في هذا المنبر الذي يُعدّ حالياً الأكثر تقدماً، خصوصاً بعد التوصل إلى اتفاق لحماية المدنيين، وإن تم تنفيذه يمكن أن يؤدي إلى وقف لإطلاق النار، يعقبه اتفاق سياسي ينهي الحرب". ويرى أنّ السودان "يحتاج إلى إنفاذ اتفاق جدة" أكثر من حاجته إلى منبر تفاوضي جديد.
ويعتقد إبراهيم أنّ ترويج واشنطن لمسار جنيف "محاولة لخطف الملف السوداني من السعودية، وتسريع الخطى نحو اتفاق يمكن أن يستثمر لجذب أصوات الأميركيين من أصل أفريقي في انتخابات 5 تشرين الثاني (نوفمبر) الأميركية".
وبالحديث عن خيارات البرهان ومجلس السيادة، يقول إبراهيم: "أمام مجلس السيادة الرضوخ والذهاب إلى مفاوضات ترعاها واشنطن، أو تغيير تحالفاته الحالية وتطوير علاقاته مع روسيا سياسياً وأمنياً. لكنني أعتقد أن ولاء مجلس السيادة لا يزال أقرب إلى دول الخليج العربي وواشنطن، ولا مؤشرات لتوجه السودان شرقاً نحو المعسكر الروسي على غرار دول غرب أفريقيا".
لهذا تعثرت المفاوضات!
يردّ الكاتب والباحث محمد الأسباط تعثر مفاوضات جنيف إلى طريقة إعدادها. يقول لـ"النهار العربي": "ما حدث هو أنّ بياناً صدر عن الخارجية الأميركية أعلنت فيه موعد المفاوضات وأجندتها المكونة من ثلاثة محاور: وقف النار، وتوفير ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية، والبحث عن آليات تنفيذ ما اتفق عليه بجدة في أيار (مايو) 2023".
يضيف: "انتهز الراغبون باستمرار الحرب في فريق الجيش السوداني هذه الثغرة واعترضوا على طريقة الدعوة، وطلبوا أن يكون الحوار مع الخارجية الأميركية، فكان الوقت لا يسمح والحوار لم يكن فعّالاً".
ويرى الأسباط أنّ ممثلي الخارجية الأميركية لا يملكون خطة واضحة يقدّمونها للوفد الحكومي، الذي تمسّك بأن ينحصر التمثيل بحكومة السودان وليس الجيش، بينما تريد واشنطن الحوار بين الجيش والدعم السريع لأنهما طرفا القتال. لذلك، ما إن فشلت المفاوضات بين ممثلي الحكومة برئاسة وزير المعادن وممثلي الخارجية الأميركية، حتى أعلنت الحكومة السودانية أنها لن تشارك في مفاوضات جنيف.
ومع أنّ البند الأساسي في الأجندة لن يكون حاضراً على طاولة التفاوض، بحسب رأيه، لكن مناقشة القضايا الإنسانية والاحتياجات والممرات الآمنة لا تزال ممكنة، معقباً: "التسريبات تقول إن الولايات المتحدة تبني منهجها على المقاربة السورية، أي إيصال المواد الإغاثية بغض النظر عن القوة المسيطرة على المنطقة". ومن المتوقع أن تطرح هذه المقاربة على الدعم السريع الذي سيوافق على إيصالها إلى مناطق سيطرته. أما البند الثالث لتنفيذ اتفاقية جدة 2023 فربما لا تتم مناقشته، وربما يخرج الاجتماع فقط ببيان يجدد دعوة الطرفين للعودة إلى العملية التفاوضية.