في الأيام القليلة الماضية، شهد ترند بعنوان "اختبار اللهجة الفلاحي"، رواجاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي في مصر. ويتيح هذا الاختبار تقييم مدى معرفة المشارك بـ "اللهجة الفلاحي"، والمقصود بهذه اللهجة هو اللسان الذي يتحدث به سكان "الوجه البحري" في مصر، وهم قاطنو المناطق الواقعة في نطاق دلتا نهر النيل (شمال القاهرة).
ويتكون الاختبار من 20 سؤالاً، كل منها يطرح كلمة تتميز بها "اللهجة الفلاحي" عن غيرها من اللهجات المنتشرة في أرجاء مصر، ثم يقدم للمشارك خيارات عدة ليختار منها المعنى الصحيح للكلمة.
وجاء تفاعل مستخدمي مواقع التواصل مع الاختبار ليكشف بجلاء عن أن الكلمات التي تضمنتها الأسئلة غير معروفة المعنى بين قطاعات واسعة من المصريين، خصوصا مواطني القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى، وظهر ذلك في النقاط المنخفضة التي حصلوا عليها وقاموا بمشاركتها على صفحاتهم، وفي سخريتهم ودهشتهم من بعض الكلمات التي ربما سمعوها للمرة الأولى، ومنها: "العرصة"، و"الطبسية" و"العكشه" وغيرها.
ورغم أن الاختبار ركز على قاطني محافظات الدلتا، إلا أنه لفت الأنظار إلى تنوع اللهجات التي تنتشر في ربوع مصر، والتي قد تصل إلى عشرات وربما مئات اللهجات ذات المفردات المميزة، ما طرح تساؤلات عدة منها: ماهي أسباب هذا التنوع الكبير في اللهجات داخل بلد واحد يفترض أنه يتحدث لغة واحدة وهي العربية؟ وما سر عدم انتشار تلك اللهجات وتواريها بل والنظر إليها بفوقية من قبل بعض الأشخاص؟ وهل هذا التنوع حديث أم أنه قديم؟
عوامل متفاوتة
ثمة اختلاف واضح في وجهات نظر الباحثين والمهتمين بشأن أسباب التباين في لهجات المصريين، كذلك هناك عدم اتفاق حول تقسيم موحد لتلك اللهجات، مع جعل حصرها أمراً صعباً. لكن هناك اتفاقا على الخطوط العامة التي قادت إلى التنوع الواسع في هذه اللهجات.
ويقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة المصرية اليابانية الدكتور سعيد صادق لـ"النهار العربي" إن "اللهجات تتطور نتيجة لعوامل تاريخية وجغرافية واجتماعية داخل مناطق الدولة، ما يؤدي إلى اختلافات في اللغة بمرور الوقت".
ويضيف صادق: "اختلاف أنظمة التعليم وتأثير الإعلام يلعبان دوراً مهماً في تنوع اللهجات. كذلك تعد الهجرة، وطبيعة الاقتصاد، والاختلاط بحضارات أخري، من ضمن العوامل التي تؤثر في اختلاف اللهجات، فمثلا اختلاط أهل الموانئ بالأجانب، وعدم اختلاط أهل الواحات والبدو بهم يوثر على لهجات كل منهم.
وعن انتشار لهجة في مقابل تواري لهجات أخرى، يشرح صادق: "اللهجات تتأثر بالمكانة الاقتصادية، فالمنطقة الغنية ذات النفوذ السياسي تفرض لهجتها على المناطق الأخرى، لذلك نرى لهجة المدن الكبرى تسيطر على الإعلام والتعليم".
ويضيف: "كذلك، ثمة تأثير على المكانة الاجتماعية بسبب اللهجة، فمثلا، اللهجة الريفية لا تحظى بالتقدير الاجتماعي نفسه الذي تحظى به لهجة أهل المدينة، ويتجلى هذا بصورة أوضح، حين نرى من يخلطون لهجتهم بلغة خاصة بدول أقوى، مثل "الفرانكو آراب"، فهذا يجعلهم يحظون بتقدير اجتماعي أكبر، لأن اللغة واللهجة تتأثران بالنفوذ الاقتصادي والسياسي للمنطقة التي تنتمي إليها".
صعوبة الحصر
أما الشاعر والباحث المهتم بالتراث واللهجات المصرية عبد الرحمن الطويل فيرى أن من الصعب تعداد اللهجات المنتشرة في مصر، وذلك لكثرتها وربما أيضا لتداخلها في بعض المناطق.
ويقول الباحث الفائز بجائزة الدولة التشجيعية في التاريخ والآثار لـ"النهار العربي": "التقسيمات التي يتبناها بعض الدارسين المعاصرين غير مقنعة، فمنهم من يرى أن هناك لهجتين رئيسيتين في الوقت الحالي، وهي اللهجة القاهرية واللهجة الصعيدية التي يتحدث بها أهل الجنوب، وهو كلام غير دقيق ولا يمكن الاكتفاء به".
ويشير إلى أنه "لو أردنا تقسيم اللهجات إلى لهجات رئيسية ستكون أكثر من ذلك بكثير، وثمة صعوبة في تقسيمها نظراً الى تنوعها وتدرجها، ففي الوجه البحري على سبيل المثال قد نجد ثلاث أو أربع لهجات رئيسية، تتدرج من أقصى شرق الوجه البحري عند محافظة الشرقية، وصولا إلى محافظة البحيرة في أقصى الغرب".
ويضيف الطويل: "في محافظات الصعيد أيضا سوف تجد ثلاث أو أربع لهجات رئيسية، من جنوب بني سويف حتى أسوان، كما سوف تجد لهجات عدة في المحافظات الحدودية ذات الكثافة السكانية المنخفضة، مثل مرسى مطروح، والوادي الجديد، وشمال سيناء وجنوبها".
وتضم مصر قرابة 4700 قرية، ما يرجح أن يفوق تنوع اللهجات التوقعات، ويقول الباحث إن "كل قرية من تلك القرى قد تجد لها خصوصية في لهجتها، وقد تجد تداخل للهجات عدة في بعض القرى بحسب تنوع السكان فيها، فقد يضم بعضها ظهيراً صحراوياً يقطنه البدو بلهجاتهم المتنوعة، الى جانب مناطق ريفية لها سماتها ولهجاتها الخاصة".
سر التنوع
المؤلفات والأبحاث وآراء المتخصصين والمهتمين لا تعطي إجابة قاطعة عن سر ذلك التنوع الكبير في لهجات المصريين، لكن ثمة وجهات نظر تسعى إلى توضيح أسباب هذا التنوع.
في كتابه "أدب مصر الإسلامية... عصر الولاة"، يشير الباحث والأديب المصري الراحل محمد كامل حسين (1901-1977)، إلى التطور الذي شهدته اللهجات المصرية عبر التاريخ الممتد لآلاف السنين، ويتناول بعض ما ذكره المؤرخون عن أن اللغة القبطية، وهي إحدى اللغات المنحدرة من اللغة المصرية القديمة، لم تكن ذات لهجة واحدة، ولكنها اختلفت من إقليم الى آخر، وأنها تأثرت باللغة اليونانية التي استخدمت حروفها لكتابة القبطية.
كذلك يتطرق إلى أن اللهجة القبطية التي تحدثها أهل الصعيد كانت أقل تأثراً باللهجة اليونانية، مقارنة باللهجة القبطية في الوجه البحري، وذلك لأن الصعيد كان بعيداً عن مركز اللغة اليونانية في مصر، في حين كان الوجه البحري أكثر قرباً من المركز.
كما تحدث الكاتب عن التباين الذي شهدته اللغة القبطية بعد دخول العرب إلى مصر، وتفاعلها مع العربية، خصوصاً بعد انتشار الإسلام، وتنوع لهجاتها بحسب القبائل التي تواجدت في مناطق مختلفة في مصر.
ويعلق الطويل قائلاً: "من دون شك، فإن اللهجات العربية بشكل عام تأثرت باللغات التي سبقتها، كما تأثرت بالقبائل التي عاشت هنا. وبالمناسبة فمصر كانت تعيش فيها قبائل عربية حتى قبل دخول الإسلام إليها، لذا فإن تنوع لهجات القبائل العربية التي عاشت في مصر قبل دخول الإسلام وبعده، وأماكن تمركزها، ودوائر علاقاتها الاجتماعية كان لها أثرها، وأوضح مثال على ذلك هو تأثير "الجيم" التي تنطقها القبائل اليمنية التي أسست مدينة الفسطاط وساهمت بشكل كبير في تكوين المجتمع المدني في مصر في القرن الأول الهجري على اللهجة القاهرية حتى يومنا هذا".
لكن الشاعر والباحث المصري يعتقد بصورة جلية أن الموقع الجغرافي لبلده، ووجوده في المنتصف بين المشرق والمغرب العربي كان له تأثيره الواضح على تنوع اللهجات فيه، ويقول: "ستجد تنوعا في الجهات الأربع، وكل جهة ستلاحظ تأثرها بالبلدان المجاورة لها بقدر ما، في حين أن اللهجة القاهرية أو المصرية كما يسميها البعض، تتوسط تلك اللهجات، فنجدها متوافقة مع العربية الفصحى في التحريك والتسكين، في حين أن اللهجات المشارقية تميل إلى تحريك الساكن أكثر، وستجدها تأثيرها جليا في بدو سيناء وبعض سكان محافظة الشرقية، أما المغاربية فتميل إلى تسكين المتحرك، وستجد لها أثرا في سكان مرسى مطروح والوادي الجديد، وهكذا".