في 5 كانون الأول (ديسمبر) 2013 رحل نيلسون مانديلا، ولم تكن جنوب إفريقيا، حينئذ، قد اعترفت بالنظام المصري الجديد بعد أحداث 30 حزيران (يونيو) من العام ذاته. وقع المسؤولون المصريون في مأزق، فمن يمثل القاهرة في تأبين زعيم إفريقيا الخالد من دون حرج سياسي؟ ثمّة من التقط اسم محمد فايق، وكان على علم بمتانة علاقته بمانديلا والقارة السمراء بأسرها، فوقع الاختيار على الرجل ليكون مبعوث عدلي منصور، رئيس الجمهورية الانتقالي آنذاك.
قبل فايق التكليف الرسمي، واستقل الطائرة إلى جوهانسبرغ، وكانت المفاجأة أن استُقبل في قاعة الرؤساء في استاد سويتو، ليحضر التأبين إلى جوار الملوك ورؤساء الدول والحكومات. هذا الاحتفاء لم يكن ابن الصدفة، فعلاقة الرجل بإفريقيا بدأت وتوطدت قبل زمن طويل؛ وشهدت عصرهاً ذهبياً في خمسينيات القرن الماضي، ثم استمرت رغم تقلب الأزمان ورجالها.
يستكمل فايق حديثه لـ"النهار"؛ إذ كان للرجل تأثير بالغ في ملف العلاقات المصرية الإفريقية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم بعد ذلك يتطرق إلى حكايته مع ملف حقوق الإنسان، الذي وهب حياته له بعد مرحلة سجنه في عهد الرئيس أنور السادات.
تحرر إفريقيا
بدأت علاقة فايق بالقارة السمراء مبكراً؛ ففي أعقاب "ثورة تموز (يوليو)" عمل ضابطاً في جهاز المخابرات العامة الوليد، الذي أسسه زكريا محيي الدين. كانت إدارة الملف الإفريقي، ودعم حركات التحرر في القارة السمراء من أولى المهام التي استهل بها عمله في الجهاز.
لكن الرجل يعود إلى بداية تعلقه بحلم تحرر إفريقيا، وقضية التحرر الوطني عامة؛ إذ يقول إن مشاعر مناهضة الاستعمار تشكلت في وجدانه أول الأمر في طفولته بمدينة المنصورة؛ حيث ولد ونشأ في نهاية عشرينات القرن الماضي، قبل أن ينتقل إلى القاهرة في المرحلة الثانوية العامة.
يقول: "في مدينة المنصورة ومدارسها عرفت الوطنية وتشربت بها؛ ففي المدرسة الثانوية كنا نقف أمام النصب التذكاري للشهداء الطلاب الذين سقطوا برصاص الاحتلال البريطاني (...) أمام هذا النصب التذكاري تكون وجداني وعزمي على مقاومة الاستعمار واستقلال مصر".
ومع انتقاله إلى القاهرة رفقة عائلته عام 1945؛ كانت رؤية جنود الاحتلال في شوارعها تثير مشاعر الكراهية لدى فايق ورفاقه؛ إذ يشير إلى مشاهد الصلافة والغرور التي كان يمارسها هؤلاء الجنود الأجانب بحق المصريين، عندما كان يشاهدهم في طريقه إلى المدرسة الإبراهيمية في حي غاردن سيتي، يقول: "حينها كنت أرى أن خروج الاستعمار من بلادنا سيكون بمثابة حل لجميع المشاكل".
صاغت هذه المشاعر أفكار الرجل الثورية مبكراً، وانطلق في تحقيق حلم تحرير إفريقيا مع توليه مسؤولية إدارة هذا الملف الحساس. وفي بداية عمله واجه مصاعب كبيرة في هذا الملف، لا سيما التواصل مع حركات التحرر الإفريقية، ويقول فايق إن الطريقة التي ابتكرها لمقابلة زعماء حركات التحرر في دول غرب إفريقيا هي التحرك تحت اسم مستعار (سامي إلياس فايز)، وبغطاء من جواز سفر لبناني، كما كان ينتهز الفرص ويلتقي زعماء آخرين في القاهرة كلما كانوا في طريقهم لرحلة الحج.
وفي غمرة النشاط الثوري في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، وبعد تأميم قناة السويس، أنشأ فايق في القاهرة الرابطة الإفريقية بحي السفارات في الزمالك، وداخل هذا المقر افتتحت حركات التحرر مكاتبَ لها؛ كانت بمثابة حلقة الوصل مع مؤسسات الدولة المصرية، وتنسيق المنح الدراسية، وعمليات التدريب العسكري، والتعريف بعدالة قضايا الدول الإفريقية لدى السفارات الأجنبية في القاهرة.
كذلك أسس الإذاعات الموجهة التي خاطبت دول إفريقيا من القاهرة بأكثر من 25 لغة إفريقية، مثل: الهوسا، واليوروبا، والإيبو، والأمهرية، وغيرها. عملت هذه الإذاعات على خدمة المصالح المصرية، التي كان على رأسها تعبئة الشعوب ضد الاستعمار؛ حيث انتشر الراديو الترانزستور في هذه الآونة في كافة أنحاء القارة، وأصبح وسيلة الإعلام الأهم، وبذلك كانت مصر أول الدول التي تخاطب شعوب إفريقيا وأكثرها تأثيراً وحضوراً.
فايق بصحبة عبد الناصر مع أحد زعماء الحركة الوطنية الأوغندية
إثيوبيا وحكمة الأمس
من بين حكايات القارة السمراء، ثمة قضية لافتة أشار إليها فايق في مذكراته، تتعلق بعلاقة إمبراطور إثيوبيا هيلا سلاسي بجمال عبد الناصر، وكأن لسان حاله يقول خذوا العبرة من هذه القصة في إدارة ملف سد النهضة. ويقول فايق: "بالطبع كنت أقصد هذا المعنى تماماً؛ وبالرغم من أنني بعيد من تفاصيل إدارة قضية سد النهضة اليوم، لكن يمكن الاستفادة من هذا الدرس بالتأكيد".
تعود الحكاية إلى مطلع الخمسينات، عندما مارست إثيوبيا دوراً عدائياً حيال مصر، بتشجيعها انفصال جنوب السودان عن شماله، وكذلك باحتضان الموساد في أديس أبابا. كُلف فايق بالرد على المضايقات الإثيوبية. يقول: "أوصلنا إلى الإمبراطور هيلا سلاسي أننا نستطيع أن نتعبه كما يتعبنا، وكذلك أظهرنا له كيف يمكننا مساعدته إذا قرر التعاون مع مصر".
تمثلت خطة فايق في إرهاق إثيوبيا، عبر إنشاء إذاعة مصرية ناطقة باللغة التغرينية موجهة للشعب الإرتري الذي كان يعاني من احتلال إثيوبي، والتوسع في المنح الدراسية لأبناء إريتريا، بالإضافة إلى استضافة الزعماء السياسيين الإريتريين كلاجئين في مصر، كما كان نفوذ مصر في الصومال أيضاً يمثل ضغطاً زائداً على إثيوبيا، وانتهت هذه الضغوط جميعها إلى انتقال العلاقة بين مصر وإثيوبيا من الجفاء إلى الصداقة، والعمل المشترك على قضايا القارة. يقول فايق إن "هيلا سلاسي تمتع بحكمة ودهاء لا يتمتع بهما آبي أحمد، اليوم".
ويرى أن الأزمة الحالية بين مصر وإثيوبيا تتلخص في غياب الثقة، وعند حل هذه الأزمة يمكن تدشين تعاون إيجابي بين البلدين، لكنه في الوقت ذاته يشير إلى أن أزمة سد النهضة استنزفت الكثير من الوقت من دون التوصل إلى حل.
إفريقيا اليوم والمستقبل
انتقلنا إلى التغيرات التي ضربت إفريقيا؛ حيث تغيرت القارة اليوم عن تلك التي عرفها فايق في الخمسينات والستينات. يقول: "تحولت القارة من تبني مبدأ عدم الانحياز إلى انتشار القواعد العسكرية الأجنبية في طول القارة وعرضها، جيبوتي يحتشد فيها عدد من القواعد العسكرية الأجنبية".
ويشير إلى الوجود الأميركي، وإلى النفوذ الصيني الذي بدأ بمساعدات وخدمات كبيرة للغاية، ثم امتدت إلى استثمارات ضخمة، وكذلك الحال مع الوجود الروسي، والفرنسي، والتركي. لكن فايق يقلل من النفوذ الإسرائيلي، ويعزو ذلك لمحدودية قدرة إسرائيل في مساعدة الدول الإفريقية، إلى جانب تورطها في الفساد داخل القارة، إلى الدرجة التي أصبحت معها دولة سيئة السمعة.
سألنا السيد محمد فايق عن الطريقة التي تسترد بها مصر مكانتها في إفريقيا، فقال: "رصيد مصر كان كبيراً في إفريقيا حتى رحل عبد الناصر، ثم أدار السادات ظهره للقارة. ورغم محاولات مبارك استعادة تلك العلاقات، إلا أن حادث محاولة اغتياله في أديس أبابا أدار الدفة بعيداً عن القارة، ورغم أن النظام الحالي يشعر بأهمية إفريقيا وبدأ بالفعل التوسع في الاستثمارات، والتنمية مثل السد الأوغندي، لكن لم نزل بعيدين عن اختراق القارة".
ويؤكد فايق أهمية العلاقات بين مصر ودول إفريقيا وأهميتها للطرفين، لذا برأيه أنه "يجب أن تدشن القاهرة خطوط طيران مع كل العواصم الإفريقية، لربط القارة بدول العالم عبر مصر. مطار أديس أبابا يلعب هذا الدور، الآن".
إلى جانب ذلك، يرى أنه "يمكن التوسع في استثمارات البنية التحتية، ويمكن إفادة الدول الإفريقية بالاستثمار الذي شهدته مصر في مجال البنية التحتية - بصرف النظر عن أولويته"، لافتاً إلى أن "دولاً إفريقية عدة، ومنها الكونغو، طلبت من مصر مساعدتها في هذا الصدد".
ويشدد الوزير المصري الأسبق على ضرورة الالتفات إلى الاهتمام بالثقافة والقوى الناعمة: "الهند باتت تستحوذ على السينما في إفريقيا، إلى جانب أن السينما النيجيرية باتت تسبق نظيرتها المصرية بمسافة بعيدة".
مسيرة حقوق الإنسان
عشر سنوات في السجن كانت كفيلة بأن تدفع محمد فايق للانتقال من مقاعد السلطة إلى صفوف أبرز المؤسسين لحركة حقوق الإنسان في إفريقيا والعالم العربي. إذ يقول إن سجنه بتهمة لم يرتكبها دفعه للتفكير في الديموقراطية، والتي كانت أحد الأهداف التي لم تتحقق لثورة يوليو.
يرى فايق أن الديموقراطية جزء من حقوق الإنسان، ولا تكتمل إلا باحترام هذه الحقوق، ومن هنا اختار هذا الملف ليكون رسالته في ما تبقى من مسيرة حياته، وبعد سنوات قليلة من خروجه من السجن كان في مقدمة مؤسسي المنظمة العربية لحقوق الإنسان عام 1983، ثم سرعان ما انتُخب أميناً عاماً لها عام 1986، كما لم تخبُ علاقته بإفريقيا في هذا الملف أيضاً؛ إذ انتُخب مفوضاً لحقوق الإنسان في الاتحاد الإفريقي عام 2009.
ومع صدور قرار بإنشاء المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر عام 2003 صار فايق عضواً فيه، لكن تبقى المهمة الأصعب والأكثر تحدياً في مسيرة الرجل عبر هذه الطريق الوعرة، هي رئاسته للمجلس بعد حوالي أسبوعين من فض اعتصام رابعة العدوية عام 2013.
في هذه الآونة كان الاستقطاب السياسي يبتلع الجميع، لكن فايق يقول إنه حاول الحفاظ على استقلالية المجلس في أتون هذا الاضطراب، وكان من أوائل قرارات المجلس الجديد تشكيل بعثة لتقصي الحقائق بشأن فض الاعتصام. ويشير إلى أن التقرير الذي صدر عن هذه البعثة "أنقذ سمعة مصر في الأمم المتحدة".
يقول: "في هذا التقرير حصرنا كل أسماء الوفيات من كل الجهات، وطلبنا من كل المعنيين تقديم الأسماء التي بحوزتهم حتى يتحقق أكبر قدر من الشفافية".
يشار إلى أن تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان هو التقرير الرسمي الوحيد الصادر بشأن أحداث فض اعتصام رابعة العدوية، وتعرض لانتقادات من جميع الجهات، كونه حمّل قيادات جماعة "الإخوان المسلمين" جانباً كبيراً من المسؤولية، فضلاً عن رصد أخطاء للشرطة، مما أدى إلى وفاة حوالي 632 شخصاً، بحسب رصد المجلس، ويعتبر فايق أن "هذا العدد الكبير، كان دافعاً وراء تشكيل بعثة تقصي الحقائق".
وعن أهم القضايا الملحة في ملف حقوق الإنسان الآن، يقول إن "الحبس الاحتياطي يعد خطأً كبيراً، وكنا في المجلس أول من يطالب بالتوقف عن هذه الممارسة التي أصبحت بمثابة عقوبة في حد ذاتها، إضافة إلى أن هناك مطالبات مستمرة بالحد من عقوبة الإعدام". وكذلك أشار إلى أن "المجلس تصدى لبعض ممارسات الشرطة، إذ أصدر بياناً يرفض وقائع تفتيش هواتف المواطنين في الشارع".
في عام 2021 غادر فايق مكتبه في المجلس القومي لحقوق الإنسان، بعد ما قضى 8 سنوات على رأس هذه المؤسسة في ظل حالة استثنائية من الاضطراب السياسي والأمني شهدتها مصر، ليستريح الرجل من عبء المسؤولية العامة أخيراً، بعدما أمضى فيها أكثر من 70 عاماً من حياته. لكنه لم يختر الصمت تماماً، فقرر كتابة مذكراته "مسيرة تحرر"، التي صدرت العام الماضي، وأعادت الكثير من القضايا العامة إلى واجهة النقاش مجدداً.