بعدما روّعت الطائرات الاسرائيلية حفيدها قبل أيام، قصدت أم حسن شاطئ صور في جنوب لبنان مع العائلة، رغبةً بالابتعاد ولو موقتاً عن التصعيد المتواصل بين حزب الله واسرائيل منذ أكثر من ثمانية أشهر.
وتقول أم حسن (60 عاماً) بينما تراقب حفيدها وهو يلهو على الشاطئ الرملي مرتديا قبعة بيضاء تقيه أشعة شمس حارقة السبت لوكالة "فرانس برس": "قبل يومين، دوّى جدار الصوت عند الساعة الثانية عشرة والنصف ليلاً، وأصيب هذا الطفل الصغير بحالة هيستيريا" من شدّة الخوف.
وتضيف السيدة المقيمة في بلدة صريفا، الواقعة على بعد حوالى 14 كيلومتراً عن أقرب نقطة حدودية مع إسرائيل "لا أستطيع أن أترك هذا الطفل في هذه الأجواء (...) نصطحبه إلى النهر، إلى البحر" للترفيه عنه.
منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلاميّة (حماس) في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) في قطاع غزّة، يتبادل حزب الله وإسرائيل القصف بشكل شبه يومي.
ويعلن حزب الله قصف مواقع عسكرية وتجمعات جنود وأجهزة تجسس في الجانب الإسرائيلي "دعماً" لغزة و"اسناداً لمقاومتها"، بينما تردّ اسرائيل باستهداف ما تصفه بـ"بنى تحتية" تابعة لحزب الله وتحركات مقاتليه.
وتخرق طائراتها بشكل شبه يومي أجواء منطقة الجنوب، التي تعد من أبرز معاقل حزب الله، ما يثير الخوف في صفوف السكان خصوصاً في بلدات بقيت بمنأى عن القصف الإسرائيلي اليومي.
وأعلن حزب الله في بيان الخميس إطلاقه للمرة الأولى "صواريخ دفاع جوي على طائرات العدو الحربية" بعد خرقها "جدار الصوت في محاولة لإرعاب الأطفال"، ما "أجبرها على التراجع الى خلف الحدود".
وتوضح أم حسن التي غطت رأسها بوشاح وارتدت قميصاً مزيناً بالورود، أنّ الكبار لا يشعرون بالخوف الذي يعتري الأطفال، بعدما "اعتاد الخد على اللطم" في إشارة الى القصف الإسرائيلي المتكرر الذي لم يوفّر بلدتها.
وتتابع بنبرة تحدٍّ "طالما حزب الله موجودون على الأرض، هم (اسرائيل) من عليهم أن يحسبوا الحساب وليس نحن".
ويرتاد المئات، خصوصاً في إجازة نهاية الأسبوع، الشاطئ العام في مدينة صور، للانقطاع ولو موقتاً عن أخبار القصف والهجمات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله، الذي يحظى بقاعدة شعبية واسعة في المنطقة.
"راحة نفسية"
واعتادت شواطئ المدينة السياحية كل صيف على استقبال المئات من الباحثين عن الراحة والاستجمام من مختلف المناطق والخلفيات. لكن هذا الصيف، شبح الحرب حاضر مع تدفّق آلاف النازحين الفارين من القصف الاسرائيلي اليها.
وخلال الأشهر الثمانية الماضية، استهدفت اسرائيل مراراً مقاتلين من حزب الله وفصائل أخرى داخل المدينة وفي بلدات تقع بمحاذاتها.
تحت أشعة الشمس، تتمدّد نساء بملابس سباحة على الرمل، بينما تسبح أخريات وبعضهن محجبات بثياب رياضية. ويمارس شبان رياضة المشي على الشاطئ أو يلهون بالكرة. ويُسمع بين الحين والآخر دوي قصف متقطع يأتي من بعيد.
ويختار البعض الجلوس في مقاه صغيرة تمتد على طول الشاطئ للاحتماء من الشمس، يقدّم بعضها الكحول.
ينفث عباس عويدات (34 عاماً) دخان نرجيلته، بينما يحتسي الجعة متمدداً على الرمال البيضاء، بعد وصوله وزوجته الى الشاطئ آتياً من قريته عزة التي بقيت بمنأى عن التصعيد والواقعة في محافظة النبطية المجاورة.
ويقول لوكالة "فرانس برس": "جدار الصوت هو أكثر ما يؤذي الناس.. يكون الدوي قوياً. تهتز الأبنية بنا ويتحطم زجاج المنازل"، متابعاً "إنها بمثابة حرب نفسية".
ويشعر عويدات، الموظف في شركة لمواد التنظيف، بـ"راحة نفسية"، في كل مرة يرتاد فيها الشاطئ، بعيداً عن نقاشات يومية مع أصدقاء أو زملاء "يقولون إنهم ينتظرون المعركة الكبرى" أو أنّ "الحرب مقبلة".
لكنّه يؤكّد في الوقت ذاته أنّ "حزب الله هنا، إذا ضربوا (الإسرائيليون)، سيضربون من هنا أيضاً".
وفي الأسابيع الأخيرة، صعّد مسؤولون إسرائيليون من وتيرة تحذيراتهم لحزب الله. وقال رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي إن اسرائيل جاهزة "لعملية مكثفة للغاية" عند حدودها الشمالية.
ويؤكد الحزب في المقابل أنه لن يتوقف عن قصف اسرائيل قبل التوصل إلى وقف إطلاق نار في غزة.
لا متنفس آخر
وأسفر تبادل القصف عبر الحدود منذ أكثر من ثمانية أشهر، عن مقتل 467 شخصاً في لبنان غالبيتهم من حزب الله وبينهم 89 مدنياً، وفق تعداد لوكالة "فرانس برس" يستند إلى بيانات حزب الله ومصادر رسمية لبنانية.
وأعلن الجانب الإسرائيلي من جهته مقتل 15 عسكرياً و11 مدنياً.
وليس خطر الحرب الذي يلوح في الأفق ما يؤرق عويدات ويدفعه الى التفكير بالسفر، بل الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي يعصف بلبنان منذ خريف 2019، يرافقه شلل سياسي مزمن.
ويقول "لا يوجد مستقبل هنا" لكن على الأقلّ "بإمكانك أن تجلس على البحر وتحتسي الجعة".
قاد وائل الحاج (42 عاماً) سيارته من بلدته في الكورة في شمال لبنان باتجاه صور، الواقعة على بعد 125 كيلومتراً، ليمضي اليوم مع أصدقائه على الشاطئ.
ويقول بينما استلقى تحت المظلّة "لا يوجد سبب للخوف".
ويضيف الرجل الذي يقضي حالياً إجازة في لبنان، "ليبقَ الخوف عندهم (اسرائيل)، وكأس الجعة عندنا".
وتعدّ السياحة الصيفية مصدر دخل رئيسي لمدينة صور، قوامها خصوصاً المغتربون اللبنانيون الذين يأتون لتمضية عطلة الصيف. لم يتوقّع ناصر محسن، صاحب أحد المقاهي على شاطئ صور، أن يتدفّق الزوار بهذا الشكل.
ويقول "كل الناس خائفون، حتى من هم في موقع القرار لا يعلمون الى أين سيتجه الوضع".
لكنّه يضيف "رغم الوضع الأمني ورغم ما يحصل، لكن ليس لدى الناس منفذ سوى هذا الشاطئ (...) الوضع على حاله منذ ثمانية أشهر، وبتنا متأقلمين معه".