تكاد الحرب عند الحدود الجنوبية للبنان تكمل شهرها العاشر، من دون أن تلوح في الأفق أي نهاية قريبة لها رغم كل المحاولات الدولية لإنهاء حرب غزة والتوصل إلى اتفاق وقف اطلاق نار يشمل المواجهات بين إسرائيل و"حزب الله".
حرب أسفرت عن دمارٍ واسعٍ في القرى الحدودية الجنوبية، لاسيما مع اتساع رقعة القصف الإسرائيلي اليومي وزيادة حدته، مستهدفاً البنى التحتية بشكل مباشر، ومخلفاً خسائر مادية وبشرية.
أدت الحرب المستمرة إلى سقوط أكثر من 500 ضحية جنوبي لبنان، معظمهم من مقاتلي "حزب الله"، بينما أحصى الجانب الإسرائيلي مقتل 31 شخصاً غالبيتهم من الجيش.
ومع استمرار الحرب، ارتفع عدد النازحين في جنوب لبنان إلى نحو مئة ألف، غالبيتهم انتقلوا إلى منازل مستأجرة أو أقاموا عند أقاربهم، الأمر الذي زاد أعباء بلديات تعاني أصلاً عجزاً في موازناتها منذ الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان منذ 2019.
ويتوزع النازحون، وفق تقارير صحافية، على عشرات المناطق منها صور وصيدا والضاحية الجنوبية لبيروت وإقليم الخروب وصوفر وبحمدون وجبيل.
غارة إسرائيلية على بلدة البستان (أ ف ب)
الوجود السوري
وتزامن هذا النزوح، مع وجود عدد كبير من السوريين في نفس المناطق التي قصدها الجنوبيون.
يبلغ عدد اللاجئين السوريين في لبنان 1.8 مليون، منهم نحو 880 ألفاً مسجّلون لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بحسب تقديرات لبنانية.
وفي تصريح سابق، أعلن رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أن عدد النازحين السوريين في بلاده بات يناهز ثلث عدد المواطنين.
لاجئون سوريون
ضغط كبير وسط أزمة اقتصادية
هذه الكثافة السكانية في بعض القرى- السكان الأصليون إضافةً إلى النازحين من القرى الحدودية كذا اللاجئين السوريين- شكلت تحدياً كبيراً للبلديات والأحزاب والجمعيات الأهلية، التي تسعى جاهدةً لضمان المستلزمات الأساسية للنازحين.
وفي دلالة على الوضع الصعب الذي يعيشه لبنان، أفاد البنك الدولي في تقرير سابق بأن معدل الفقر في لبنان ارتفع 3 أضعاف خلال عقد ليشمل واحدا من كل 3 لبنانيين، في حين تواجه البلاد أزمة اقتصادية حادة منذ عام 2019 وتصعيداً في الجنوب.
ويعاني لبنان أزمة سياسية وانقسامات تشلّ المؤسسات وتحول من دون انتخاب رئيس للجمهورية منذ عام 2022.
من ناحية البلديات في لبنان، يعاني عدد كبير منها من ضائقة مادية سببها تدهور قيمة العملة اللبنانية، ما أدى إلى تراجع الإيرادات وعجز عن القيام بالمهام والمشاريع المناطة بها، حتى أن عدداً من البلديات عاجز عن تسديد رواتب وأجور العاملين لديها.
وشكلت مسألة النازحين الجنوبيين تحدياً جديداً للبلديات من حيث تقديم الخدمات الأساسية، وكيفية التوافق بين جميع السكان في البلدات.
مبنى بلدية ديرقانون النهر
نموذج... دير قانون النهر
وفي نموذح لواقع البلديات في جنوب لبنان، قال لـ"النهار العربي" رئيس بلدية ديرقانون النهر (قضاء صور- جنوب لبنان) عدنان قصير إنَّ "البلديات تواجه أزمة كبيرة منذ ما قبل هذه الحرب، وزادت أعباءها مسألة النزوح"، مشيراً إلى أن "المشكلة متجذرة وتلقي بظلالها على كل ما يعني الناس بشكل مباشر".
وأكد أن "السلطة اللبنانية غير مدركة لحجم هذه الأزمة، وحتى الأحزاب الموجودة في المجلس النيابي تحاول إيجاد حل، لكن لا شيء جدَّياً إلى الآن".
ولفت قصير إلى أن "موازنة بلدية ديرقانون النهر تبلغ نحو 800 مليون ليرة لبنانية أي 9000 دولار، ما يوازي رواتب شهرين للموظفين، من دون احتساب الصيانة والآليات ومشاريع وبنى تحتية...".
وأضاف في حديثه: "في بداية الحرب، لاحظنا أن الأهالي في القرى الحدودية الذين ينزحون من منازلهم، يفضلون البقاء في مناطق قريبة تتيح التردد بين الحين والأخر إلى منطقتهم". وأوضح أنه "في ديرقانون النهر استقبلنا نحو 150 عائلة أي ما يقارب 700 شخص غالبيتهم من عيتا الشعب، بالإضافة لنحو 500 إلى 700 نازح سوري، و9 آلاف نسمة من سكان القرية، أي بمجموع 11 ألف نسمة".
رئيس بلدية ديرقانون النهر
في السياق، أوضح أن "ما قبل الانهيار الاقتصادي، تم انجاز كل البنية التحتية الأساسية (شبكة الصرف الصحي- المياه- الكهرباء- النفايات)"، و"نحاول أن نبقي على هذه الخدمات بشكل سليم، مثلاً نحن من القرى التي لا نُشعر أهلها بأزمة مياه، إلا في حالات استثنائية"، كما أن "الكهرباء متوافرة طوال 24 ساعة يومياً، رغم أزمة الطاقة"، وذلك "رغم زيادة عدد سكان البلدة نحو 700 شخص يستهلكون المياه والكهرباء والخدمات".
"حالياً، لم تعد هناك منازل متاحة للايجار، في ظل الطلب المتزايد على السكن في دير ديرقانون النهر التي تُعتبر ممتازة من ناحية الخدمات الاجتماعية والصحية". لذلك، تسعى البلدية إلى الحفاظ على مستوى الخدمات وتأمين استمراريتها رغم التحديات الجديدة.
ويؤكد قصير أن البلدية تسعى إلى احتواء هذه الأزمات، موضحاً أن "هناك تدخلاً شبه دائم من جهتنا ومن الأيادي البيضاء والجمعيات لمساعدة النازحين واللاجئين وتقديم جميع الخدمات".
وشدد في حديثه على أن "ما نقوم به هو أقل الواجب، ونقوم بجهد كثيف بمساعدة الجمعيات والمتطوعين والأحزاب كذلك اتحاد بلديات صور، لتقديم أفضل سبل العيش للنازحين من قراهم وحتى اللاجئين".
ألواح طاقة شمسية للمساعدة بضخ المياه
كلفة الإيجارات
وفي سؤال حول الإيجارات، كشف رئيس بلدية ديرقانون النهر عن تشكيل لجنة بشأن هذا الموضوع، موضحاً أن "هناك نوعاً من التمني والتوصية للمالكين بعدم رفع الايجار الشهري أكثر من 200 إلى 300 دولار بحدٍ أقصى".
أما في موضوع اللاجئ السوري، فأوضح: "لا يُمكن القول لهم إنَّه لم يعد لديكم مكان بيننا! هذه الثقافة غير موجودة... ونتعاطى معهم مثل اللبناني من ناحية الخدمات".
من جهته، قال صاحب مبنى مستأجروه غالبيتهم من السوريين: "هم مواطنون مثلنا مثلهم، ويدفعون الإيجار في وقته، وليس لدي مشاكل معهم".
وأضاف: "أستفيد من الإيجارات لكي أعيش، ليس لدي مدخول آخر"، مشيراً إلى أنه "لا يمكنني أن أطلب منهم ترك المنزل، لكي نعطيه لأشخاص آخرين".
نظرة علمية وموضوعية
في ختام حديثه، قال رئيس بلدية ديرقانون النهر إنَّ "حجم التحديات كبير جداً، ونحن بحاجة إلى نظرة علمية وموضوعية لدور البلديات بمواجهة هذه الأزمات". ولفت إلى النشاط الاقتصادي في البلدة، قائلاً: "هناك حركة تجارية إضافية لاسيما مع زيادة عدد السكان".
أمام كل ما تم ذكره، تبقى الآمال معلقة على إيجاد حلٍ لكل هذه الأزمات، وانتهاء الحرب الدائرة في الجنوب لكي يعود السكان إلى قراهم ومنازلهم، كما هو حال اللاجئ السوري الذي ترك موطنه منذ أكثر من 13 سنة، وإلى الآن لا أفاق لعودته.