ليس سهلاً ما واجهه عناصر "حزب الله" وبيئته الحاضنة بعد يومي الثلاثاء والأربعاء، وربما يمكن تصنيف الهجوم الدموي الذي نُفّذ على مرحلتين بأنّه ضمن الأصعب في تاريخ العمليات الأمنية المعقدة في العالم، إذ يزاوج بين خرقين كبيرين، الأول أمني تمثّل بتحويل أجهزة الاتصال إلى أدوات قتل، بصرف النظر إن كانت العملية قد تمّت من المنشأ أو أثناء النقل، والآخر سيبراني ببث إشارة التفجير في لحظة صفر.
هذا الهجوم غير المسبوق الذي لم تتبنه إسرائيل رسمياً، يحمل بمرحلتيه أبعاداً أمنية دقيقة جداً ربما يُفصَح عن تفاصيلها مستقبلاً، وربما لا، لكنه في جميع الأحوال قد يكون مفصلياً ومؤثراً في نتيجة أي حرب بين أي جانبين في العالم، نظراً لما يحمله من تأثير نفسي وعسكري مباشر على الجهة المستهدفة.
شبه ضياع... وهجوم نفسي معاكس
على الصعيد النفسي، لا يمكن أن يختلف اثنان على الصدمة التي يُنتجها هكذا هجوم على المستهدفين مباشرة، وفي هذه الحالة هم عناصر في "حزب الله"، وأيضاً على البيئة الحاضنة لهم من عائلات وأقارب وأصدقاء، وإمكانية ارتداد آثار الصدمة الاجتماعية على الأداء العسكري للتنظيم.
ويقول الطبيب النفسي الدكتور أحمد عياش، لـ"النهار"، إنّه "بعيداً عن المغالاة وأفكار العظمة الإعلامية، مما لا شك فيه أنّ مجزرة البيجر طبعت صدمتها ليس على الفدائيين (عناصر حزب الله) وحسب إنما حتى على جمهورهم، فالخطورة لا تكمن بالاصابة الجسدية إنما في عنصر المفاجأة السريعة التي جعلت كل مصاب يشعر بعدم التوازن الوجودي وعدم معرفة ما حصل ويحصل له، إذ اختلطت الأمور ذهنياً بين تعرّض المصاب لرصاصة في حادثة اغتيال أو أمر آخر".
ويضيف: "إدراك الوعي أنّ البيجر نفسه انفجر تطلّب وقتاً، ونزيف الدم السريع وانهيار القوى تسبب بحالة شبه ضياع إلزامي لا بطولة فيه"، وعند إدراك حقيقة ما حصل "بدأ الهجوم النفسي المعاكس ليكرر عليه ما هو مشحون به من أفكار دينية وجودية تحفزه على الصمود، وخاصة عند وصول الأصحاب وتوفر النجدة".
ويؤكّد عياش أنّ "الصدمة لم تنحصر بالجرحى، إنما امتدت بقوة على البيئة الحاضنة والأنصار والجمهور، فمنهم من عاش الصدمة النفسية سياسياً، ومنهم من عاشها قلقاً عسكرياً ومنهم من شعر بنزف جرح نرجسي هائل نتيجة التعبئة الإعلامية -الدينية – الطائفية – الغيبية - الوطنية الطويلة المدى مع الثقة العسكرية المفرطة التي ترى حتى في الهزيمة العابرة انتصاراً خفياً". ويردف: "تألّم الجريح إنما المعاناة الصعبة والمرارة كانت تجتاح الأهل والجمهور، وإذا أخذنا في الاعتبار شماتة الأعداء تزداد المرارة معاناة"، مشيراً إلى أنّ "التأثير المتبادل بين ألم الجرحى ومعاناة الأهل والجمهور لا بد منه، خاصة عند تيقّن الأهل أنّ الإبن أو الأخ صار معوقاً".
إذاً، في لحظة الحدث ربما كان الأمر سبباً لانهيار معنوي، لكن وفقاً لعياش، مع مرور الساعات "تنعكس الأمور بالاتجاه الآخر، إذ تُشحن الأنفس بالثأر والانتقام، فمع الوقت تتمكن النفس من استيعاب الصدمة، ومع مزجها بأفكار ووعود الغيب يتحوّل كل جريح وغير جريح لبطل أو لمشروع شهيد فداء للسماء وتقليداً لمسيرة الأنبياء والأئمة وفق الاعتقاد الشيعي الاثني عشري، فكيف إن كان في الوعد تأهب لاستقبال الإمام الغائب المنتظر"، ليخلص إلى أنّ "الثقة العسكرية ستعود أقوى مما كانت".
"زيادة الإصرار والثبات"
بدورها، تستبعد الأخصائية النفسية والاجتماعية الدكتورة لانا قصقص أن يظهر تأثير ما بعد الصدمات مباشرة بعد الهجوم، وتقول لـ"النهار" إنّه "بعد الحدث نقوم عادة بردات فعل دفاعية"، لافتة أنّه "بعد الحرب يمكن أن نلاحظ آثار ما بعد الصدمة، وهذا الأمر يسري في جميع الحروب، ولا علاقة له بالجهة المنتصرة أو المهزومة".
وترى قصقص أنّ ما حصل "من الممكن أن يزيد إصرار العناصر المقاتلة وثباتها بشكل أكبر لأنّ الجرح لا يزال ساخناً، ولا أتوقّع أن يتأثروا نفسيّاً بشكل سلبي"، مضيفة أنّ "الهجمات الارهابية الاسرائيلية ستقوي الصمود، فكلما شعر المستهدف أنّه مظلوم ويتعرض للاضطهاد سيزيد دفاعه ويتمسك بالقضية بشكل أكبر".
هزة كبيرة... ولكن!
هذا في ما يتعلّق بالعامل النفسي للمقاتلين والبيئة الحاضنة لـ"حزب الله"، لكن على الصعيد العسكري، هل تؤثّر هكذا ضربة على قدرة الحزب على التصدي لأي عملية برية إسرائيلية بعد تحييد الآلاف من عناصره خلال ساعات؟
العميد حسن جوني، نائب رئيس أركان الجيش اللبناني السابق، يرى أنّ الخرق "أحدث هزة كبيرة في حزب الله، لكن التنظيم يزخر بالأعداد البشرية، ولا أعتقد أنّ الجهوزية الميدانية للمقاتلين على مستوى الأفراد اهتزت بشكل مؤثّر".
ويضيف لـ"النهار العربي": "هذا يعني أنّ هناك جهوزية ميدانية لمواجهة إسرائيل إذا دخلت إلى لبنان"، وهذا احتمال مطروح خاصة إذا وُضع ما حدث في سياق الصراع القائم منذ 11 شهراً، وما رافقه مؤخراً من تصعيد أمني وعسكري وإعلامي إسرائيلي، وتزايد التهديدات بنقل جبهة القتال الرئيسية من قطاع غزة إلى جنوب لبنان والتوجّه نحو حرب مفتوحة.
يوافق العميد المتقاعد مارون توفيق خريش أنّ الهجوم الأمني الإسرائيلي "أثّر على حزب الله بشكل عام بسبب إخراج 4000 من عناصره من المعركة، في ضربة قد تكون استباقية للعدو قبل هجومه الشامل أو حربه على لبنان"، لكنه يشدّد على أنّ هذا الأمر "لن يحدّ من قوة حزب الله في المعركة البرية، لأنّه قادر أن يزج في الحرب 100 ألف وما فوق من كوادره ومقاتليه".
ويقول لـ"النهار العربي" إنّه "بالعلم العسكري، حزب الله لم يُشلّ بهذه الضربة، وهو قادر أن يوجّه ضربة إلى إسرائيل في أي وقت، وهو سيردّ ولن يخضع".
أما مصادر "حزب الله"، فتؤكّد بدورها أنّ "منظومة القيادة والسيطرة لم تتضرّر، كما التواصل مع المجموعات المقاتلة في الجبهات الأمامية الذين لا يزالون يتلقون التعليمات اللازمة وبشكل منتظم"، نافية أن يكون العناصر الذين تضرروا جراء الهجوم الإسرائيلي يتبعون لتشكيلات التنظيم العسكرية المعنية بالقتال على الجبهات، وأوضحت أنّ "معظمهم يعملون في وحدات مدنية".
بكل الأحوال، توعّد "حزب الله" إسرائيل بـ"حساب عسير وقصاص عادل"، والأيام المقبلة كفيلة بتأكيد أي نظريّة ستصح، هل سيثبت الردّ الذي بات منتظراً، مجدداً، أنّ الهجوم العنيف الذي تعرّض له لم يؤثّر بشكل فعلي على أدائه العملي؟ أم العكس صحيح؟