بعد عمليات الاستهداف العنيفة والدقيقة لعدد من عناصره وقياداته، انتشرت تحليلات عن "تخلي" أو "بيع" طهران "حزب الله" للأميركيين، وعبرهم للإسرائيليين. للتأكيد، هذه التحليلات غير متداولة إلا بين مراقبين لبنانيين عموماً، وهي تغيب إلى حد كبير، على ما أمكن متابعته، عن مؤسسات الرأي والصحف الغربية. تنبع هذه التحليلات من مقاربات خاطئة وربما من دعاية مبطنة تهدف إلى زرع الشك بين "حزب الله" وراعيه الإيراني، على أمل أن يعود الحزب إلى كنف الدولة اللبنانية.
العيب الأول
تستند هذه التحليلات إلى فكرة أنه لا يمكن لإسرائيل ضرب أهداف حساسة للحزب إلا عبر مساعدة من طهران. أحد عيوب هذه المقاربة تجاهلها القدرات الإسرائيلية على تعقب أهداف للحزب من دون مساعدة أجنبية. أثبتت تل أبيب تفوقها الاستخباري إلى درجة أنها تعلن بعد فترة قليلة من الاستهداف عن "نجاح" عمليتها وعن اسم المستهدف بل العدد التقريبي للمستهدفين. كان ذلك جلياً في عملية اغتيال إبراهيم عقيل وعدد من القادة الميدانيين معه، كما في عملية اغتيال سلفه فؤاد شكر. ربما تدرك طهران بعض مواقع الصواريخ، لكن يصعب أن تكون مطلعة أيضاً على زمان اجتماع قادة عسكريين من الحزب، وبشكل أقل، مكانه.
وذكرت تقارير أن إسرائيل تحركت لاغتيال عقيل بعد نحو أربع ساعات فقط من حصولها على المعلومات بشأن الاجتماع. قد تكون هذه التقارير غير دقيقة، لكن ثمة سابقة تدعم قدرة إسرائيل على التحرك سريعاً عندما تحصل على المعلومات. لم يستغرق "انتقامها" لمقتل 12 شخصاً في الجولان، بعد اتهامها "حزب الله" بإطلاق صاروخ على بلدة مجدل شمس، سوى ثلاثة أيام تقريباً. حينها، ردت عبر اغتيال شكر في 30 تموز (يوليو). بالتالي، كل التحليل المبني على أن إسرائيل بحاجة إلى مساعدة خارجية (ربما باستثناء الولايات المتحدة) لتحديد مواقع قادة الحزب وصواريخه يتجاهل أدلة حديثة تثبت العكس.
ماذا عن التصريحات الإيرانية؟
السبب الثاني الذي يستند إليه مؤيدو فكرة "البيع" أو "التخلي" عن الحزب هو تصريحات مسؤولين إيرانيين من بينهم المرشد الأعلى علي خامنئي عن إمكانية الحوار مع "العدو" في ما يخص البرنامج النووي، أو عن "التراجع التكتيكي" أمامه. تدل هذه التصريحات إلى أن إيران غير قادرة على استمرار المواجهة مع الولايات المتحدة بسبب أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية في الداخل. بإمكان إيران معالجة جزء من هذه المشاكل عبر اتفاق نووي جديد مع واشنطن. يعد هذا المدخل الأقل كلفة على الإيرانيين، إلى جانب أنه أثبت فاعليته ولو لفترة وجيزة بين 2015 و 2018.
في غضون ذلك، لا تريد إيران المخاطرة بإشعال المنطقة وسط انتخابات أميركية يمكن أن تعيد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ويدرك الإيرانيون أن أي تصعيد عسكري مع الإسرائيليين سيرتد سلباً عليهم. مجدداً، ليست الأمثلة على ذلك قديمة العهد.
عندما حاولت الانتقام لقصف إسرائيل قنصليتها في دمشق أوائل نيسان (أبريل) الماضي، ردت إيران بإطلاق نحو 300 مقذوف بين مسيرات وصواريخ على أهداف إسرائيلية. لم يصل من هذه المقذوفات إلا بضعة صواريخ، وكانت الأضرار هامشية. بالمقابل، ردت تل أبيب بقصف منظومة رادارات دفاعية روسية بالقرب من قاعدة جوية في أصفهان بصاروخين. (يقول إسرائيليون إنهم فجروا الصاروخ الثاني في الجو بعد نجاح الأول في مهمته). في المحصلة، فشل نحو 150 صاروخاً إيرانياً ببلوغ أهداف إسرائيلية بينما نجح نحو صاروخين إسرائيليين بتدمير هدف إيراني حساس. (حصلت وكالة "أسوشيتد برس" على صور من الأقمار الاصطناعية تؤكد نجاح الاستهداف). انكسار التوازن هذا دفع الإيرانيين على الأرجح إلى البدء بخفض التصعيد. لكن ماذا لو ترافق خفض التصعيد هذا مع "بادرة حسن نية" إيرانية تجاه الغرب تقوم على "تسريب" بعض الأهداف الحساسة لـ "حزب الله"؟
ليست قراءة خاطئة للتاريخ وحسب
أثبت النظام الإيراني منذ استلامه الحكم أنه يجيد التراجع عن حافة الهاوية حين يشعر بأنه مهدد. لكن نادراً ما تخلى عن أوراق قوته في الإقليم، هذا إن تخلى عنها أساساً. فهو يحتفظ بها لحين زوال التهديد وشعوره بأن الوقت قد حان للانتقال مجدداً إلى الهجوم. من يعتقد أن إيران ستتخلى عن "درة تاجها" في الشرق الأوسط، "حزب الله"، لا يتجاهل التاريخ وحسب، لكن ربما أيضاً أبسط قواعد الاستثمار.
حتى 2005، ساد اعتقاد بأن إيران تمنح الحزب نحو 200 مليون دولار سنوياً. في 2020، قدّرت وزارة الخارجية الأميركية أن إيران تمنحه نحو 700 مليون دولار سنوياً. بالحد الأدنى، أنفقت إيران على الحزب مليارات الدولارات منذ تأسيسه، إن لم يكن أكثر. هذا إلى جانب الاستثمار في جهود بناء العلاقات الشخصية والخبرات الأمنية والعسكرية واللوجستية، وهي استثمارات لا تُقدر بثمن، تحديداً بالنسبة إلى إيران. وترسانة الحزب هي بالدرجة الأولى للدفاع عن البرنامج النووي الإيراني، لذلك يتطلب الأمر أكثر من قفزة في الخيال للتفكير بإمكانية أن تتخلى إيران عن دفاعات حيوية كهذه، في وقت تقف على عتبة تحولها إلى دولة نووية.
تفكير بالتمني
فكرة أن إيران "تتخلى" عن الحزب هي مجرد تعبير عن تفكير بالتمني لا تصمد أمام التدقيق. ليس أمراً عرضياً ألا تذكر التقارير الغربية شيئاً عن هذه "التجارة" الإيرانية في وقت تستعرض مثلاً تفاصيل دقيقة عن أمور تقنية متصلة بتفجيرات أجهزة النداء. إيران والحزب في موقف دفاعي صعب، فقط لأن إسرائيل متفوقة عسكرياً، لا لأن أحدهما قرر التخلي عن الآخر. بالمناسبة، نادراً ما انعكست المفاوضات بين الإيرانيين والأميركيين سلباً على "حزب الله". في الواقع، حدث عكسُ ذلك تماماً.