ذات يوم، قال الجندي الذي أصبح لاحقاً الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور إنه حين يعجز عن حل مشكلة، كان يعمد إلى تضخيمها كي يتمكن لاحقاً من حلها. ويبدو أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حفظ هذه النصيحة، بحسب مارك تشامبيون، كاتب رأي في "بلومبرغ".
ليس نتنياهو المسؤول السياسي الوحيد الذي يؤمن بإمكانية أن يؤدي رفع حدة التصعيد إلى خفضه لاحقاً. كُتِب الكثير عن تمتع روسيا بهذه الاستراتيجية في عقيدتها النووية بالاستناد إلى بيان أصدره قبل 15 عاماً القائد السابق للقوات الصاروخية الاستراتيجية اللفتنانت جنرال أندري شفايشنكو، والذي حض على إجبار العدو على وقف أعماله العدائية بشروط مواتية لروسيا.
مقعد آخر
لا يعتمد منطق التصعيد لخفض التصعيد فقط على مراقبة من يُنفّذ هذه السياسة وكيف. ثمة دوماً مقعد الى طاولة القرار لمن تُنفَّذ عليه هذه السياسة أيضاً، أي لمن يخضع لها. يختلف حجم هذا المقعد باختلاف أوراق القوة لدى صاحبه.
نجح نتنياهو لغاية اليوم في رفع التصعيد، أحياناً بطريقة تدريجية وأخرى بوتيرة متسارعة. ليس لأن إسرائيل قوية بما يكفي وحسب. يبدو أن إيران ومحورها لم يعودا قادرين على منع تل أبيب من زيادة زخم ضرباتها الأمنية والعسكرية.
المؤرخ والأستاذ الفخري لدراسات الحرب في كلية الملك بلندن لورنس فريدمان كتب صباح الأربعاء في مجلة "نيوستيتسمان" البريطانية عن اعتماد نتنياهو هذه الاستراتيجية في محاولة لفك الارتباط بين "حماس" و"حزب الله". لكن المؤرخ يعتقد أن "المشكلة المعيارية" في منطق "التصعيد لخفض التصعيد" تكمن في أنه يمكن التحكم بمسار التصعيد لا بثماره السياسية.
بداية التفكك
بين تفوق إسرائيل وأوراق القوة القليلة التي لا يزال "محور المقاومة" يتمتع بها، أو بالحد الأدنى التي يريد استخدامها، يمكن تلمس الصعوبات في قراءة الثمار السياسية لمسار نتنياهو الأخير. لكن ثمة بالمقابل بعض الأمور الواضحة وسط المشهد الملتبس. ربما بدأ التصعيد الإسرائيلي "الرسمي" مع تفجير أجهزة النداء والاتصالات اللاسلكية بين أيدي عناصر "حزب الله". حدث التفجير بعد ساعات على اجتماع إسرائيلي أمني انتهى عند الثانية والنصف من فجر الثلاثاء 17 أيلول (سبتمبر). حينها، تحدثت إسرائيل عن نقل مركز ثقل العمليات العسكرية من الجنوب إلى الشمال.
لكن ما سمح بإطلاق المسار، كان اغتيال إسرائيل الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران وعدم رد إيران على الاغتيال. من جهته، حاول "حزب الله" الانتقام لاغتيال قائده العسكري الأول فؤاد شكر لكن الهجوم كان قاصراً عن إحداث تأثير فعال. ساهم في ذلك ضرب إسرائيل منصات الإطلاق التابعة للحزب صباح 25 آب (أغسطس) الذي كان على ما يبدو ساعة الصفر للحظة الانتقام. كان الرد الخافت، والأهم عدم الرد، لحظة بداية تفكك "وحدة الساحات". وأشارت بداية التفكك تلك إلى أن احتمالات تراجع "المحور" بدأت تتزايد.
"إشارة ضعيفة"
بعد الانطلاق من المقدّمة إلى صلب التصعيد، كان واضحاً أن "حزب الله" لا يجاري المسار الإسرائيلي. السؤال هو ما إذا كان ذلك يعود إلى ضعف قدراته العسكرية بعد الضربات القاسية التي بدأ يتلقاها منذ نحو 10 أيام، أو إلى رغبته بتأجيل الردود الانتقامية إلى وقت لاحق. لكن حتى الفرضية الثانية تشير ضمناً إلى أن قدرات الحزب على إحداث المفاجأة باتت ضعيفة، وإلا لما اضطر إلى تأجيلها، أي بعبارة أخرى، إلى تقتيرها.
ومن خلال قراءته للرشقات الصاروخية التي أطلقها الحزب رداً على الغارات الإسرائيلية، لا يستبعد فريدمان أن تكون إمكاناته قد تضررت فعلاً من الضربات. وهذه القراءة حدثت حتى قبل توقف "حزب الله" عن إطلاق الصواريخ على أهداف إسرائيلية طوال 20 ساعة تقريباً بدءاً من ظهر الأربعاء. وفي اليوم نفسه، أعلن "حزب الله" استهداف عكا بمجموعة من الصواريخ انتهى قسم منها على الأقل بالسقوط في البحر كما أظهرت بعض الفيديوهات. هنا أيضاً يتكرر السؤال عما إذا كان سبب ذلك تآكل إمكانات الحزب الصاروخية واللوجستية. بالرغم من عدم وجود طريقة للتأكد من ذلك، تتراكم المؤشرات إلى أن هذا الأمر قد يكون قريباً من الواقع. (يوم الخميس، أطلق الحزب ما يقرب من 180 صاروخاً نحو أهداف إسرائيلية).
ورأى عاموس هاريل في صحيفة "هآرتس" أن إسرائيل اعتبرت رد "حزب الله" بالصاروخ الوحيد الذي أطلق باتجاه تل أبيب قبل أن يتم اعتراضه، "إشارة ضعيفة".
لكن القدرة على التصعيد بشكل مطرد، وإن أظهرت أنها لا تقابَل برد متناسب من "حزب الله"، لا تعني حل "المشكلة المعيارية" التي تحدث عنها فريدمان.
ما قد تظهره التسوية
مهما كانت أسباب الرد الخجول للحزب حتى كتابة هذه الأسطر، سيظل نجاح مبدأ "التصعيد لخفض التصعيد" مرتبطاً بقبول قيادة "حزب الله" فك ارتباطها عن غزة، أي بطريقة أخرى وقف "جبهة الإسناد" تماماً، بدون توقف الحرب على "حماس".
سيتعين انتظار المفاوضات الدولية الراهنة لمعرفة التسوية الأولية التي يمكن أن يستقر عليها الطرفان. إذا تضمنت التسوية المفترضة فصل جبهتي غزة ولبنان، أو حتى وقفاً للحرب على الجبهتين، لكن مع قبول الحزب بالتراجع إلى ما وراء نهر الليطاني، فستكون سياسة نتنياهو قد اقتربت من النجاح. بل سيكون بالإمكان القول إن مفهوم "وحدة الساحات" يتآكل بسرعة أكبر. لكن في حال العكس، أي في حال رفض الحزب مطالب الفصل أو التراجع الإسرائيلية، فقد تكون تل أبيب قد اقتربت من لحظة الخيارات الصعبة.