النهار

إيران وإسرائيل... عودة إلى قواعد اشتباك ما قبل 1 أبريل؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
إضاءة أوّليّة على مدى نجاح إيران في الانتقام وفرض الردع ضدّ إسرائيل
إيران وإسرائيل... عودة إلى قواعد اشتباك ما قبل 1 أبريل؟
إيرانيّون يلوّحون بأعلام إيرانيّة وفسلطينيّة أمام السفارة البريطانيّة في طهران بعد الهجوم الإيرانيّ على إسرائيل (أ ف ب)
A+   A-

انتهى ردّ إيران، أو هكذا يُفترض، على استهداف إسرائيل قنصليّتها في دمشق يوم الأوّل من نيسان (أبريل) والذي تسبّب بمقتل 16 شخصاً من بينهم قادة في الحرس الثوريّ.

 

اضطرّت إيران للردّ لأنّ قتلى الحرس كانوا برتب عسكريّة بارزة، وفي مقدّمهم الجنرال محمّد رضا زاهدي، كما أنّ الهجوم على القنصليّة يعدّ هجوماً على الأراضي الإيرانيّة نفسها. بالتالي، كان هدف الردّ الإيرانيّ مزدوجاً: الانتقام والردع.

 

عن الانتقام

لم يكن بإمكان إيران أن تسقط للإسرائيليّين قتلى برتب عسكريّة كبيرة. تتمتّع إسرائيل بقدرات استخباريّة من المرجّح أن تكون الأقوى في المنطقة، إلى جانب قدرتها على ضرب أهدافها بدقّة بسبب هيمنتها الجوّيّة. ضربت إيران نفاطيم، وهي أكبر قاعدة جوّيّة في جنوب إسرائيل، ربّما من دون أن تعرف مدى قوّة دفاعاتها ولا عدد الجنود والضبّاط الذين يتمركزون فيها. قالت إيران إنّ القاعدة تعرّضت لـ"أضرار جسيمة" بينما وصفت إسرائيل الأضرار بـ"الطفيفة". مثّل استهداف القاعدة الجوّيّة، من ضمن الردّ الشامل، شكلاً من أشكال الانتقام لمقتل القادة العسكريّين الإيرانيّين، لكنّه لم يكن مساوياً له من حيث الخسائر العسكريّة.

 

كان على إيران التعويض عن النقص النسبيّ في قدراتها العسكريّة والتكنولوجيّة بتوسيع حجم الهجمات وإرسالها على شكل موجات من مسيّرات وصواريخ كروز وصواريخ باليستيّة. تمتّعت إسرائيل بدفاعات متقدّمة ساهم فيها حلفاؤها الغربيّون الذين أسقطوا عدداً من تلك الأصول في الأجواء الإقليميّة. أضيفت إلى ذلك الدفاعات الإسرائيليّة المتعدّدة الطبقات ("القبّة الحديديّة" و"مقلاع داود" و"سهم 3") والمقاتلات التي استخدمتها تل أبيب لمساعدة تلك الدفاعات على التصدّي للهجمات.

 

إذا كانت بيانات إسرائيل صحيحة بشأن وصول سبعة صواريخ باليستيّة فقط إلى أهدافها، وذلك من أصل أكثر من 300 صاروخ ومسيّرة أطلقتها إيران فهذا يعني أنّ نسبة نجاح الدفاعات الإسرائيليّة تخطّت الـ 95 في المئة. وأطلقت إيران 170 مسيّرة و30 صاروخ "كروز" و120 صاروخاً باليستيّاً.

 

لا يفترض ذلك بالضرورة أنّ إسرائيل وحلفاءها سيحقّقون دوماً نسبة النجاح نفسها في أيّ مواجهات مقبلة، حتى لو كانت شبيهة من حيث الظروف والحجم بالهجوم الأخير. لكن يبقى أنّ الاختراق الذي حقّقته إيران أمس في الدفاعات الإسرائيليّة محدود جدّاً. ربّما يأتي تفسير هذا الواقع من أنّ إيران أبلغت عواصم القرار اقتراب ردّها فاستعدّت تل أبيب مع حلفائها لإحباط الهجوم الإيرانيّ. هذا الإبلاغ يخفّف من إمكانات إيران الانتقاميّة بطبيعة الحال. لكنّه يكشف الكثير أيضاً عن الهدف المهمّ الآخر للهجوم: الردع.

 

بين إيران وأميركا

استغرق توجيه إيران الرسائل بشأن محدوديّة الهجوم بعض الوقت ممّا أخّره نسبيّاً. يبيّن هذا الجهد تردّداً في صناعة القرار الإيرانيّ بسبب الحرص على تجنّب حرب واسعة. في الواقع، شكّل ذلك مرآة لطريقة تفكير إدارة الرئيس بايدن في تحقيق الردع حين تعرّضت قواتها في المنطقة لعدد من الهجمات وبعضها كان قاتلاً. أرسلت الإدارة رسائل إلى إيران بشأن نيّتها عدم توسيع الحرب وبأنّها في موقف دفاعيّ بحت. يهتمّ الطرفان بإبلاغ بعضهما البعض ما لا يريدان فعله وهذا يخفّض من قيمة الردع.

 

ومن جملة التحليلات عن رسالة طهران الأخيرة أنّ الإيرانيّين قالوا لإسرائيل بشكل غير مباشر إنّ القاعدة المستقبليّة للهجوم على أراضيهم (من ضمنها القنصليّات والسفارات) سيقابَل بهجوم على الأراضي الإسرائيليّة. ثمّة أكثر من ملاحظة هنا. أوّلاً، من المنطقيّ الاعتقاد بأنّ الهدف الإسرائيليّ الأهمّ لهجوم 1 نيسان (أبريل) لم يكن القنصليّة عينها بل الأهداف البارزة التي كانت داخلها. فبين أواخر كانون الأول (ديسمبر) وأوائل شباط (فبراير) فقط، قتلت إسرائيل 17 قائداً في الحرس الثوريّ داخل الأراضي السوريّة. بالتالي عبّر استهداف أرضٍ إيرانيّة عن استثناء أكثر من تعبيره عن قاعدة إسرائيليّة عامّة. وحتى من دون انتقام إيرانيّ مثل ذاك الذي حصل ليلة 13-14 نيسان، يصعب توقّع أن تقوم إسرائيل مجدّداً بشنّ هجوم مستقبليّ مماثل ضدّ إحدى القنصليّات أو السفارات الإيرانيّة الأخرى حول العالم بسبب الارتدادات السياسيّة والأمنيّة التي قد تفوق أيّ مكسب محتمل من ورائه. 

 

من جهة أخرى، أتى الردّ الإيرانيّ، جزئيّاً على الأقلّ، لأنّ الهجوم كان صارخاً من الناحية الإعلاميّة. لو أنّ الاستخبارات الإسرائيليّة فجّرت سرّاً مثلاً عبوة في القنصليّة الإيرانيّة متسبّبة بالنتائج نفسها لكان بإمكان طهران تفادي الردّ، أو لكان الضغط الملقى عليها أقلّ ثقلاً. تدرك إيران مثلاً أنّ إسرائيل استهدفت كبير مهندسي برنامجها النوويّ محسن فخري زاده داخل أراضيها سنة 2020 لكنّها لم تردّ على قتله (بالحدّ الأدنى ليس علناً). وهذا يفتح الباب واسعاً أمام مواصلة إسرائيل استهداف عناصر إيرانيّة بارزة خارج وأيضاً داخل الأراضي الإيرانيّة لكن من دون "استعراض".

 

عودة إلى ما قبل 1 نيسان؟

ما يسهّل نظريّاً عودة الأمور إلى ما قبل 1 أبريل هو وجود بايدن في البيت الأبيض. فبالحديث عن الفترة التي تلت الهجوم الأميركيّ الذي نفّذته الإدارة في أوائل شباط (فبراير) انتقاماً لمقتل 3 جنود في إحدى قواعدها داخل الأردن، أمكن ملاحظة أنّ اعتداءات وكلاء إيران على القواعد الموجودة في المنطقة قد تراجعت إلى حدّ بعيد. ليس لأنّ الضربات الأميركيّة مؤلمة بشكل أساسيّ بل لأنّ واشنطن تحتفظ بقنوات اتّصال مع الإيرانيّين. وربّما لم تكن إيران تريد التسبّب بسقوط قتلى أميركيّين بفعل هجمات وكلائها لأنّ ذلك قد يجرّها إلى حرب تتفاداها و/أو لأنّ التسبّب بقتلهم قد يعيد ترسيخ الوجود الأميركيّ في المنطقة.

 

خطوط التواصل هذه، إلى جانب عدم رغبة الإدارة في حرب على أبواب الانتخابات، ستخفّف من احتمالات انفلاش النزاع والتصريحات الصادرة عن الرئيس الأميركيّ تؤكّد هذه الأجواء. طبعاً، تظلّ آفاق التصعيد موجودة في ظلّ رئاسة بنيامين نتنياهو للحكومة الإسرائيليّة، وهذا العامل وحده بحاجة إلى إضاءة منفصلة. لكنّ هذه الآفاق ليست مجرّدة من أيّ قيود، بسبب الضغط الأميركيّ وعدم سقوط قتلى إسرائيليّين واستمرار وجود فرص إسرائيليّة أخرى للردّ على الردّ، بعيداً من القصف التقليديّ. وتبقى نقطة أخيرة.

 

بالرغم من أنّ البيانات الإيرانيّة الرسميّة تشير إلى أنّ الانتقام الإيرانيّ قد انتهى، يمكن أن يكون الواقع مغايراً. سبق أن أعلنت إيران نهاية الردّ على اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني بعد قصف قاعدتين أميركيّتين في شمال العراق بصواريخ باليستيّة. لكنّها تراجعت عن ذلك لاحقاً على لسان عدد من مسؤوليها متعهّدة بمواصلة عمليّات الانتقام. قد تشعر إيران بأنّ ضرباتها الأخيرة أثمرت نتائج أقلّ من المتوقّع لذلك قد تختار التصعيد لاحقاً، ربّما عبر محاولات اغتيال شخصيّات إسرائيليّة، كما فعتل مثلاً عندما حاولت استهداف مسؤولين أميركيّين منذ فترة غير بعيدة (بولتون وبومبيو). من المرجّح أن يكون خفض التصعيد عنوان المرحلة المقبلة، لكن ثمّة دوماً خطر حقيقيّ في أن يصبح عنواناً مُفرَّغاً من أيّ مضمون.

 

اقرأ في النهار Premium