النهار

قصص هروب من الموت يكلّف آلاف الدولارات... هؤلاء هم تجّار العبور من غزة إلى مصر
القاهرة - عبدالحليم حفينة
المصدر: النهار العربي
يبقى النزوح المتكرر الخيار الوحيد أمام العاجزين عن الفرار من القطاع نحو مصر، لكن ماذا عن طريق الخروج من معبر رفح وتكلفته على أهل غزة؟
قصص هروب من الموت يكلّف آلاف الدولارات... هؤلاء هم تجّار العبور من غزة إلى مصر
صورة مركبة لفلسطينيين عند معبر رفح - رجل الأعمال المصري ابراهيم العرجاني.
A+   A-
ليس ثمّة أمل يلوح في الأفق، الأمّ وبقية العائلة غادروا إلى معبر رفح، ومنه إلى القاهرة. بقيت أميرة (اسم مستعار) مع أبنائها وزوجها في مدرسة لإيواء النازحين في تل السلطان شمال غربي رفح، تكابد الأسرة الصغيرة ظروف الحرب القاسية، ناهيك بمأساة العيش في حجرة واحدة رفقة نحو ثلاثين شخصاً.

أميرة المولودة لأمّ مصرية علقت في القطاع؛ لأن زوجها فلسطيني وأبناءها الثلاثة لا يحملون الهوية المصرية أيضاً، فاستحال سفر الأسرة المنكوبة مع الجدة المصرية وشقيق أميرة الذي يحمل الجنسية المصرية وكذلك أبناؤه، إذ خرجت العائلة من غزة وفقاً لآلية تنسيق خروج حملة الجنسية المصرية التابعة لوزارة الخارجية المصرية.
 
طريق صعب ومكلف
في بداية الحرب نزحت أميرة رفقة والدتها وشقيقها من شمال القطاع إلى رفح، تنقلت العائلة بين أكثر من بيت قبل أن تستقر في مدرسة الإيواء في تل السلطان. كان العيش وسط هذا العدد من البشر مؤلماً، لكن وجود العائلة خفف وطأة المعاناة، أما الآن فلا أحد معها، فمن لم يستطع السفر من عائلتها بواسطة وزارة الخارجية المصرية، خرج عبر دفع آلاف الدولارات.

ثمّة طريق وحيد تسمح بتأمين رحلة أميرة وأسرتها إلى مصر، وهو طريق باهظ التكلفة، إذ تعارف الغزاويون على آلية تنسيق الخروج من القطاع بواسطة شركة "هلا للاستشارات والخدمات السياحية"، المملوكة لرجل الأعمال المصري إبراهيم العرجاني. وتراوح تكلفة خروج الشخص البالغ من غزة بين خمسة آلاف دولار وعشرة آلاف. أما الأطفال فتقارب تكلفتهم 2500 دولار.

تقول السيدة الثلاثينية لـ"النهار العربي" إنها لا تملك المبلغ اللازم لسفر أسرتها، إذ تحتاج إلى نحو 20 ألف دولار لتأمين السفر من طريق شركة "هلا"، مشيرة إلى أن شقيقتها دفعت مثل هذا المبلغ مع أسرتها لأن زوجها فلسطيني أيضاً.
 
من دون عائلتها تعاني أميرة وحيدة الآن، تخشى العديد من السيناريوات، منها الاجتياح البري لرفح، ومن ثم الدخول في دوامة حصار المدارس وفصل النساء عن الرجال، وصولاً للاعتقال والتحقيقات القاسية.

هذه المخاوف دفعت الكثير من النازحين في رفح إلى التوجه بالفعل إلى أحياء توقفت فيها العمليات البرية. وبحسب صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية؛ تدفق نحو 200 ألف فلسطيني من رفح (تؤوي أكثر من مليون شخص) متجهين نحو خان يونس ومنطقة المواصي، ووسط غزة؛ حيث أُقيمت مخيمات مؤقتة. ويوم 7 أيار (مايو) أشار تقرير للأونروا إلى أن منطقة المواصي وحدها باتت تؤوي أكثر من 400 ألف نازح.

يبقى النزوح المتكرر الخيار الوحيد أمام العاجزين عن الفرار من القطاع نحو مصر، لكن ماذا عن طريق الخروج من معبر رفح وتكلفته على أهل غزة؟
 

الهرب من الموت
في عام 2005 وقّعت السلطة الفلسطينية اتفاقية المعابر مع إسرائيل، والتي بموجبها تجرى التنسيقات اللازمة لإدارة المعابر بين غزة ومصر والضفة الغربية، ومن بينها معبر رفح، وتضمنت الاتفاقية بناء ميناء في غزة.

تعطل العمل بهذه الاتفاقية بعد وصول "حماس" إلى السلطة عام 2006، وإحكام سيطرتها على القطاع عام 2007. رفضت الحركة حينها تنفيذ الاتفاقية، ما أدى إلى إغلاق معبر رفح لمدد طويلة، إذ لم يفتح إلا في حالات استثنائية، كحركة الطلاب والمرضى والحجاج.

يقول الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني الدكتور شفيق التلولي، إن استيلاء "حماس" على معبر رفح انعكس سلباً على حركة المرور عبره، وأدّى إلى إغلاقه لفترات طويلة؛ إذ علقت الاتفاقية الخاصة بين مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية عام 2005 بعد انسحاب الاحتلال من غزة وتسليمه إلى السلطة، على أن يشرف على عمل المعبر حرس الرئاسة الفلسطينية بمراقبة دولية، ولما انقلبت "حماس" على السلطة عام 2007 انسحب المراقبون الدوليون بعدما سيطرت على المعبر.

ظلت حالة معبر رفح غير مستقرة طوال السنوات التالية، وبعد العمليات الإرهابية في شمال سيناء اضطربت أوضاع المعبر أكثر من ذي قبل. في تلك الفترة ظهر ما عرف بالتنسيق خارج الأطر الرسمية، نظير مبالغ مالية.
 
 
"تسليع" المعبر
كان المسار الطبيعي للخروج من غزة نحو مصر، يتم بإرسال وزارة الداخلية التابعة لـ"حماس" الأسماء إلى السلطات المصرية، ومن ثم تعلن قائمة الأسماء المسموح لها بالدخول إلى مصر، لكن هذه العملية كانت تستغرق الكثير من الوقت، قد يصل إلى أشهر، ومن هنا ظهرت آلية التنسيق التي تتم من طريق أشخاص نافذين يمكنهم تسريع عملية ظهور الأسماء في قوائم المرور. وصارت تكلفة عملية إخراج الشخص الواحد آنذاك نحو 2000 دولار.
 
يقول التلولي إن "حماس" وضعت آليات خاصة لسفر الفلسطينيين. ولحاجة المواطنين الكبيرة للسفر وعدم إمكان سفر أعداد كبيرة، شرعت بعض الشركات الخاصة عام 2013 في إجراء تنسيق خاص مدفوع الأجر لمن يرغب، ما أدى إلى احتكار المعبر وتسليعه، في وقت تماهت "حماس" مع تلك الشركات، ولم تمنعها من العمل داخل القطاع، تحت حجج حاجة المواطنين للسفر، وتسهيلاً لتمرير كشوفات المواطنين الذين يرغبون بالسفر الاعتيادي، وغير ذلك.

تجارة التنسيق
منذ عام 2013، استمرت عمليات التنسيق للمسافرين، وظهر العديد من الشركات التي تتخصص في إنهاء الإجراءات. وفي هذا الصدد، يقول طاهر النونو، المستشار الإعلامي لرئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، في تصريحات خاصة لـ"النهار العربي": "قبل الحرب كان ثمّة نوعان من المسافرين؛ الأول هم المسافرون العاديون الذين يسافرون طبيعياً من قطاع غزة إلى مصر أو إلى أي مكان في العالم عبر مصر، وكان العدد تقريباً 700 مواطن يومياً".

ويضيف: "النوع الثاني من المسافرين كان يقع في نطاق ما عُرف بكشف التنسيقات، وهم الأشخاص الذين عليهم شكل من أشكال المنع من دخول مصر فكان يتم التنسيق لهم للدخول خاصة، وقبل الحرب بقليل ظهرت شركة هلا، وهي شركة خاصة تعمل على تسهيل السفر إلى مصر وفق مقابل مالي".

من باب كشوف التنسيق، ولجت شركة "هلا للاستشارات والخدمات السياحية" في صيف 2019 إلى عالم الاستثمار السياحي في عبور الغزاويين إلى مصر، وبحسب الصفحة الرسمية للشركة على موقع "فايسبوك"، فإن تكلفة عمليات التنسيق التي سمّتها "خدمات VIP" راوحت بين 1000 و1200 دولار للراغبين بالسفر من غزة إلى مصر، أما العودة إلى القطاع فتكلفت 600 دولار.
 
العرجاني رئيساً لاتحاد القبائل العربية.
 
مع مرور الوقت، استأثرت شركة "هلا" المملوكة لرجل الأعمال إبراهيم العرجاني بكعكة عمليات التنسيق بأكلمها، وباتت وحدها المهيمنة على ما يعرف بكشوف التنسيق، والتي استمرت حتى السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وبعد توقف لنحو ثلاثة أشهر، عادت "هلا" إلى عمليات التنسيق من جديد في كانون الثاني (يناير) الفائت.
 
 
ويشير تحليل أجرته صحيفة "صنداي تايمز" لقوائم السفر اليومية، التي توضح بالتفاصيل أسماء سكان غزة المسجلين لدى "هلا" لدخول مصر وأعمارهم، إلى أن الشركة ربما حققت ما لا يقل عن 88 مليون دولار منذ بداية آذار (مارس) من إجلاء أكثر من 20000 شخص. في بداية نيسان (أبريل)، ارتفع عدد الأسماء في هذه القوائم من حوالي 295 إلى 475 شخصاً يومياً، ما قد يعزز متوسط الإيرادات اليومية مما لا يقل عن 1.25 مليون دولار إلى مليوني دولار في اليوم.
 
عمليات التنسيق التي تجريها شركة "هلا" داخل قطاع غزة تجرى من طريق وكيل محلي، وبالبحث عن هويته، تبيّن أنه أسامة أبو نقيرة الشهير بـ"أبو صلاح". يدير الرجل شركة "إيزي ترافل للسياحة والسفر"، حيث رصدنا إعلاناً عن افتتاح مقر الشركة داخل مدينة غزة في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2022. ويتضمن الإعلان تقديم خدمات تنسيق معبر رفح.

رغم أن التنسيق يبدأ من داخل قطاع غزة في مقر شركة "إيزي ترافل" تحت سمع حركة "حماس" وبصرها، نفى النونو لـ"النهار العربي" أن يكون للحركة أو حكومتها في القطاع أي علاقة بعمليات التنسيق.

تستمر حتى الآن شركة "إيزي ترافيل" في الإعلان عن عمليات التنسيق؛ إذ تحمل الإعلانات بوضوح شعار شركة "هلا". "النهار العربي" حاول مراراً التواصل مع "هلا" و"إيزي ترافيل". لكن كلتا الشركتين لا تستجيبان، حتى أن البريد الإلكتروني لشركة "هلا" لا يستقبل رسائل إلا من بريد إلكتروني مسجل لدى الشركة، بما يعني أنه لا يستقبل سوى رسائل الأفراد المسجلين كعملاء في الشركة.

الرجل اللغز
حيال الضجة التي تثيرها عمليات التنسيق تلك، يتمسك إبراهيم العرجاني بالصمت والتجاهل، فليس ثمّة تعليق واحد عن هذه التجارة الرائجة على أبواب معبر رفح. في الوقت ذاته يُحتفى بالرجل كأحد القيادات الشعبية بين أبناء القبائل، ففي الأيام الأخيرة أُعلن تنصيبه رئيساً لـ"اتحاد القبائل العربية" في مصر.

لكن وراء الرجل، الذي بات اسمه ملء السمع والبصر، قصة مثيرة، ففي الوقت الذي كانت الأوضاع مضطربة في معبر رفح عام  2008، كان العرجاني يقود مطاردات متبادلة مع قوات الأمن المصرية، بعد مقتل أحد أشقائه بين عدد من بدو سيناء، اختطف على إثر هذه المطاردات 25 شرطياً لساعات قبل أن يفرج عنهم.

اعتُقل العرجاني بعد هذه الواقعة في نهاية كانون الأول (ديسمبر) عام 2008، واللافت أن علاقة العرجاني حينها كانت جيدة بقوات الأمن، لكن الأحداث التي قادت إلى مقتل شقيقه عكّرت صفو هذه العلاقة لحوالي عامين، حتى أُفرج عنه في عام 2010.
 
بعد الإفراج عنه، أسس العرجاني شركة "أبناء سيناء للتشييد والبناء"، التي عملت في قطاع التشييد العمراني، وساهمت في إعمار قطاع غزة غير مرة، وتوسعت أنشطة الرجل الاقتصادية، حتى حصل على توكيل علامة سيارات عالمية، وباتت مجموعته الراعي الرسمي للنادي الأهلي المصري. كما ساعد العرجاني في الحرب ضد المجموعات الإرهابية في شبه جزيرة سيناء.

رغم صفقات العرجاني الرابحة، لا يزال الرجل متمسكاً بتعظيم أرباحه من عبور الفلسطينيين عبر معبر رفح، في المقابل يسعى آلاف الغزاويين وأقاربهم خارج القطاع في كل اتجاه لجمع أموال التنسيق، تارة من طريق بيع ممتلكاتهم أو الاستدانة، وتارة أخرى من تدشين حملات تبرعات، كتلك المنتشرة على منصة Gofundme. هدف الجميع الوحيد؛ النجاة من ملهاة الموت الدائرة في غزة، ولو بدفع آلاف الدولارات.
 
 
 

اقرأ في النهار Premium