أخيراً بعد 70 عاماً، حققت سلوى فارس سلامة سالم قبطي (76 عاماً) حلمها، وتمكنت من زيارة قبر والدها في قرية معلول المهجرة، قضاء الناصرة.
كم عمرك اليوم يا ست سلوى؟ أجابتني: "عمري من عمر النكبة، كنت جنيناً صباح 24 آذار (مارس) 1948، عندما قُتل والدي بعمر 25 عاماً، أثناء توجهه إلى عمله مهندساً في شركة السكة الحديد في حيفا، حيث تعرضت الحافلة التي كان يستقلها لهجوم مباغت من الجيش الإسرائيلي. وإضافة إلى والدي، قتل سائق الحافلة وشخص آخر، وأصيب 17 راكباً في ذلك الهجوم".
التهجير واللجوء
كانت معلول تقع على الطرف الشمالي لوادي المجيدل على بعد 12 كيلومتراً غربي مدينة الناصرة، على تلة ترتفع نحو 275 متراً فوق سطح البحر. تربطها طريق فرعية بطريق الناصرة - حيفا العام، ويعتقد أنها أقيمت على أنقاض قرية معلول الرومانية، التي عرفها الصليبيون باسم "مولا". يحدها من الشمال عيلوط ومستوطنة كفارهحورش، ومن الغرب مستوطنة نهلال، ومن الجنوب جباثة، ومن الجنوب الشرقي المجيدل ومن الشرق يافة الناصرة.
وبحسب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس "كانت معلول من جملة قرى الجليل الأسفل التي احتلت في المرحلة الثانية من عملية "ديكل"، قبل يوم واحد من احتلال الناصرة في 15 تموز (يوليو) من 1948. وأخليت القرية من سكانها كلهم، وهُدمت منازلها لتبقى حجارتها شاهدة على الجريمة".
نزح غالبية أهالي معلول وسط جو من الرعب والخوف إلى القرى العربية المجاورة، ولا سيّما قرية يافة الناصرة، بينما نزحت بعض العائلات إلى سوريا ولبنان.
تغطي موقع القرية اليوم ومعظم أراضيها وتلالها غابة صنوبر واسعة، غرسها الصندوق القومي اليهودي (الكيرن كايميت) كجزء من سياسة الاستيلاء على الأراضي وتحويلها محميات طبيعية لمنع سكانها من العودة أو البناء، وأقيمت قاعدة عسكرية جوية بالقرب من المكان.
ولا يزال مسجد البلدة قائماً، لكن يمنع ترميمه. وثمة كنيستان للروم الأرثوذكس والكاثوليك، أعيد ترميمهما، ويتم استخدامهما خلال مواسم الأعياد للصلاة حيث يجتمع أبناء القرية من المسلمين والمسيحيين لإحياء ذكرى قريتهم.
يذكر أن الأبنية الثلاثة استخدمت لسنوات طويلة زرائب للبقر والمواشي إلى أن تم تنظيفها وترميمها في منتصف التسعينات من القرن الماضي. وهناك بعض الأضرحة في المقبرة الإسلامية قرب المسجد، وتغطي أنقاض العديد من المنازل الأعشاب والأشجار الحرجية، بسبب سياسة الإهمال ومحاولة إظهار أنها لم تكن مسكونة أو موجودة أصلاً.
وتروي سلوى أن العادات الفلسطينية آنذاك كانت تقتضي أن تقوم أرملة الشهيد بالمشي تحت نعش زوجها ليعلم الجميع أنها حامل، وهكذا ولدت بعد أربعة أشهر من تاريخ قتل والدها، لأرملة وأمّ عمرها 22 عاماً، لتكون الرابعة بعد ابنتين وصبي.
أن تعيش نكبتين...
تصف سلوى قصتها بأنها قصة فلسطين، فهي عاشت نكبة مستمرة خلال طفولتها مع تبعاتها بكل ما فيها من ألم وصراع. منذ طفولتها مروراً بفترة شبابها لم تنسَ قبر والدها، وحاولت مراراً وتكراراً الدخول إلى المنطقة العسكرية المحظورة.
تقول سلوى: "كنت أحاول دائماً الوصول إلى أراضي القرية المهجرة، للبحث عن قبر والدي، حتى أنني في إحدى المرات صرخت على الجندي الإسرائيلي الذي كان يقف على مدخل القاعدة الجوية. طلبت منه السماح لي بالدخول، وعندما رفض قلت له اقتلني وادفني هنا، علّي أتمكن من الاقتراب من قبر والدي وأشم رائحة التراب المدفون تحته".
تتحدث عن تلك اللحظات بحرقة العاجز عن الوصول إلى مقبرة. هذا مجرد تعقيد آخر من تعقيدات الحياة اليومية في فلسطين، وقيد آخر على الحريات وواحد من سلسلة الممنوعات الكثيرة التي فرضها الاحتلال، حيث تحولت أبسط الحقوق إلى أعقدها على مستوى العالم.
حلم تحقق
تشير سلوى إلى أنها تعلمت وعملت في المجال الاجتماعي. تزوجت ولديها ثلاثة أبناء وحفيدان، وعملت أول مأمورة قضائية للدفاع عن الأطفال. حاولت طيلة السنوات الماضية عن طريق المؤسسات وأعضاء الكنيست العرب ووسائل الإعلام أن توصل صوتها ومطالبتها المحقة بزيارة قبر والدها.
وبعدما قدّم مركز "عدالة" في حيفا ملف القضية إلى محكمة العدل الإسرائيلية العليا، نجح في آب (أغسطس) عام 2019 في إجبار السلطات العسكرية على السماح بدخول السيدة قبطي وخالها صبحي منصور وابن شقيقها فارس عدنان سالم إلى مقبرة القرية بعد منع دام 70 عاماً، باعتبار أن المقبرة منطقة عسكرية مغلقة. وطالب المركز بصيانة المقبرة الواقعة اليوم داخل قاعدة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، دون الاستناد إلى نص قانوني واحد، ودون أي وجه حق. طوال تلك الفترة مُنعت سلوى من ممارسة حقها الإنساني والقانوني والدستوري، وفي المقابل طالبت السلطاتُ العسكرية بسحب القضية، وعقد اتفاق بين الطرفين يضمن لسلوى زيارة المقبرة ثلاث مرات في العام، على أن يقوم محامو مركز "عدالة" في كل مرة بالتنسيق للزيارة.
منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لم تتمكن سلوى من الزيارة بسبب الأوضاع الأمنية والحرب على الجبهة الشمالية واشتداد القصف.
تؤكد سلوى شعورها بأن حياتها "رمز للنكبة الفلسطينية المستمرة، قصة أرض وشعب ووطن. ونحن اليوم نرى التاريخ يكرر نفسه. الفرق الوحيد أننا كنا نسمع قصص المجازر التي ارتكبت عام 1948، الطنطورة وكفر قاسم ودير ياسين، لكننا اليوم نشاهدها مباشرة على شاشات الفضائيات. قبل 76 عاماً قتلوا أكثر من 50 فلسطينياً في الطنطورة، بل دفنوهم أحياء وقاموا ببناء موقف للسيارات فوق جثثهم، وقبل سنوات أنتجوا فيلماً وثائقياً عن هذه الجريمة، تحدث الضباط والجنود فيه بكل ثقة، كانوا يضحكون ويمزحون، بل كانوا يتفاخرون بكل ما ارتكبوه".
وتختم بغصّة: "إلى متى يتعين علينا أن نعيش هذه الحالة؟ لا أحد يوقفهم، لا أحد يفعل أي شيء لتنتهي هذه المأساة، إلى متى سيصمت العالم ونحن نقتل ونتعرض للظلم والاضطهاد؟".