فجأة، قرّر مسؤولون أمنيون في إسرائيل والولايات المتّحدة أنّ مسؤول حركة "حماس" في غزّة يحيى السنوار، أحد أبرز متصدّري أسماء المطلوبين في الدولة العبريّة، ليس موجوداً في رفح! هذا ما جرى تسريبه بعد أسابيع طويلة من ترويج تل أبيب بأنّ المدينة الجنوبيّة التي تتحدى العالم لاجتياحها هي "آخر معاقل حماس" في القطاع الفلسطيني.
لقد كرّرت إسرائيل على لسان مسؤوليها السياسيين والعسكريين مراراً أنّ رفح، التي تحوّلت بسبب الحرب على غزّة إلى خزان بشري لنحو 1.5 مليون نازح هارب من الموت، تضمّ القيادة المركزيّة لحركة "حماس" التي تقاتلها منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)، فضلاً عن 4 فصائل متبقية من "كتائب القسام".
أيام قليلة مرّت على إطلاق عمليّة قضم تدريجي للمدينة الحدوديّة مع مصر، بدأت من معبرها، لتنتقل من حيّ إلى آخر، مترافقة مع أحزمة ناريّة كثيفة، وسط إصرار رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو على تصفية "حماس" لتحقيق أهداف الحرب، ليتفاجأ العالم بتسريبات أمنيّة تجزم أنّ السنوار ليس هناك.
أين هو يحيى السنوار؟
نقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" العبريّة عن مسؤولين إسرائيليين أنّ "الجيش لم يتمكن من تحديد موقع السنوار حاليّاً على وجه اليقين"، لكنهما استشهدا بتقييمات استخباراتية حديثة تشير إلى أن زعيم "حماس" موجود في أنفاق تحت الأرض في منطقة خان يونس، على بعد حوالي 8 كيلومترات شمال رفح.
كذلك، أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" نقلاً عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين، بأنّ الزعيم الحمساوي الذي يُنظر إليه كأحد مهندسي هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) "لم يغادر أبداً شبكة الأنفاق الواسعة تحت خان يونس، حيث تصل إلى عمق 15 طابقاً في بعض الأماكن، كما أن السنوار محمي أيضاً من طرف مجموعة من الأسرى الإسرائيليين الذين يستخدمهم كدروع بشرية لثني القوات الإسرائيلية عن مداهمة موقعه أو قصفه".
إغراءات أميركيّة
ترافقت هذه المعطيات مع أخرى نشرتها "واشنطن بوست" عن إغراءات أميركيّة لإسرائيل بـ"تقديم مساعدة قيّمة" إذا تراجعت عن غزوها الواسع لرفح، وهي عبارة عن "معلومات استخبارية لتحديد موقع قادة حماس والعثور على أنفاق مخفية".
ويرى مسؤولون أميركيون أنّ هذه المعلومات الاستخباراتية يمكن أن "تقوّض" المبرر الإسرائيلي للعمليات العسكرية الكبرى في رفح، وأشاروا إلى أنّ إدارة الرئيس جو بايدن أبلغت الإسرائيليين أنه لا ينبغي استخدام ملاحقة السنوار كمبرر لشن هجوم على المدينة.
وفي السياق، يرى المحلّل السياسي الفلسطيني المختص بالشأن الإسرائيلي إيهاب جبارين في حديث إلى "النهار العربي" أنّ إدارة بايدن "بحاجة لإبعاد الأنظار عن رفح"، بسبب الكمّ الهائل من النازحين هناك وإمكانيّة وقوع عدد كبير منهم كضحايا لأيّ عمليّة عسكريّة واسعة، الأمر الذي من شأنه أن يشكّل إحراجاً للبيت الأبيض خاصة في ظلّ الاحتجاجات العارمة التي تشهدها الجامعات الأميركيّة، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسيّة.
ويؤكّد جبارين أنّ واشنطن "لا تسعى إلى وقف الحرب أو الهجوم على رفح كما تُروّج" مستشهداً بكلام وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن عن "إمكانية القيام بعمليّات فعّالة" في المدينة مع التركيز على "تقليل عدد الضحايا من المدنيين".
حرق ورقة التوت
إذاً، أميركا وإسرائيل "لا تريدان حرق" الذريعة الأخيرة للعمليّة العسكريّة. ويصف جبارين رفح بـ"ورقة التوت التي يحاول أن يستعملها نتنياهو والمؤسسة الإسرائيلية ككلّ لستر عيوبهم"، متسائلاً: "هل هناك استراتيجية إسرائيليّة للتعامل مع رفح والقطاع في اليوم التالي؟ الواضح هو أنّ لا خطّة".
ومن هنا أتت التسريبات التي من شأنها أن تمنح القيادة في إسرائيل مجالاً "لشراء الوقت والهروب إلى الشمال بعدما وصلت إلى أقصى نقطة في الجنوب"، فالقول إنّ السنوار في خان يونس "يضفي شرعيّة" على الأهداف والعمليّات التي ستكون في الأيام المقبلة. وبالتالي فإنّ الاستراتيجية التي يعتمدها نتنياهو هي "عمليّة نوعيّة مصغّرة نوعاً ما في رفح، وتفعيل العمليات التي قد تكون أشد ضراوة في الشمال، كما نرى في جباليا" التي قصفها الجيش الإسرائيلي بشدّة في الأيام الماضية.
تكرار لاستراتيجيّة "الشفاء"
يشير المحلّل السياسي الفلسطيني إلى أنّ هذه الاستراتيجيّة "استُخدمت حرفيّاً في ما مضى لدى الهجوم على مستشفى الشفاء"، إذ زعمت إسرائيل حينها أنّ قيادة "حماس" متواجدة في أنفاق تحت المجمّع الطبي، وهذا ما ثبت عدم صحّته بعد اقتحام وتدمير أكبر صرح صحّي في قطاع غزّة.
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الحرب هي محط إجماع إسرائيلي على المستويين السياسي والعسكري، مع اختلاف الاستراتيجيات والأهداف من معسكر إلى آخر ومن مستوى إلى آخر. وبحسب جبارين "ليس نتنياهو وحده من يتلذذ بإطالة أمد القتال، فالمؤسسة العسكريّة تتواجد في نفس الخانة، وهي تود أيضاً الهروب من لجان التحقيق والقضاء والمساءلة عن إخفاقات السابع من أكتوبر".
وبين ملاحقة السنوار وكتائب "حماس"، والقصف والقتل والتهجير، وغياب الرؤية بشأن نهاية الحرب وما يليها، يبقى الفلسطينيون كبش محرقة راح ضحيّتها أكثر من 35 ألف شخص غالبيّتهم من المدنيين الأبرياء، ومنهم نحو 15 ألف طفل، وها هم بعد أكثر من ثمانية أشهر يحملون ما تبقّى من أمتعتهم هاربين بعد رسائل إسرائيليّة بإخلاء الجنوب والشمال، حتى باتوا لا يعلمون أين المفرّ في قطاع محاصر لم يعد فيه أيّ رقعة آمنة.