نكسة جديدة تعرّضت لها جهود إغاثة الفلسطينيين في غزّة، الذين يعيشون مأساة إنسانيّة كبيرة وخطر مجاعة جراء الحرب الإسرائيلية المستمرّة، وذلك عقب إعلان الجيش الأميركي أنّه سينقل الرصيف العائم المخصص لإدخال المساعدات إلى القطاع باتجاه ميناء أسدود الإسرائيلي، وسط توقّعات بإنهاء هذه العملية قريباً.
وتُشكّل هذه الخطوة إحراجاً كبيراً للرئيس الأميركي جو بايدن في وقت حساس للغاية لحملته الانتخابيّة، خاصة وأنّه تعرّض بالفعل لانتقادات حادة بعد قراره المفاجئ بإنشاء هذا الرصيف بتكلفة وصلت إلى 320 مليون دولار، دون أن يتمكّن من تأدية الغرض منه لأكثر من عشرة أيام فقط!
وكانت إدارة بايدن توقّعت توقّف الرصيف عن العمل بحلول أيلول (سبتمبر)، إذ لن تسمح الظروف البحرية باستمرار عمله في فصل الشتاء. ولكنّ مسؤولين عسكريين أميركيين قالوا إنّ المشروع قد يتمّ تفكيكه في بداية تموز (يوليو) المقبل، بعدما "فشل حتى بتحقيق أهدافه المتواضعة" وفقاً لتقرير نشرته صحيفة " نيويورك تايمز".
أمواج ومخاطر
وواجه الرصيف الأميركي عقبتين رئيسيتين منذ الإعلان عن تشغيله في 17 أيار (مايو): الأولى تمثّلت بأحوال الطقس غير المتوقّعة في فصل الربيع وأوائل الصيف والأمواج الصعبة في البحر التي حطمت أجزاء منه وجرفها البحر حتى أسدود، فتمّ فصله عن الشاطئ مرتين وإيقاف عمله، وفقاً لتصريحات عدد من المسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين.
ويقول مصدر في إحدى منظمات الإغاثة الكبرى، في حديث لـ"النهار"، إنّ ذلك يؤكّد أنّ "الحلّ الأميركي في الأصل كان موقتاً، وإنشاء الرصيف تمّ على وجه السرعة من دون دراسة حقيقيّة وفعليّة للتيارات المائية وأوضاع الطقس في قطاع غزة".
أما العقبة الثانية والأهم فهي "المخاطر الأمنية" التي أحاطت به بعدما استخدمه الجيش الإسرائيلي في عمليّة إجلاء الرهائن والجرحى والقوات العسكرية بعد هجومه على مخيّم النصيرات في 8 حزيران (يونيو)، الذي خلّف مئات الضحايا والجرحى. واضطرت الأمم المتحدة، وهي الجهة الرئيسية المسؤولة عن توصيل المساعدات، إلى إيقاف عملها مع الرصيف موقتاً بعد هذا الحدث الذي وصفته مديرة برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة سيندي ماكين بأنّه "أحد أكثر أيام الحرب دموية".
ويقول المصدر الإغاثي إنّ "هذا الحدث هو السبب الفعلي لقرار تفكيك ونقل الرصيف البحري، وليس ما قيل عن سوء أحوال الطقس".
ويتابع: "ما أقدمت عليه القوات الإسرائيليّة يومها أثار شكوك المنظمات الإنسانية بشأن إمكانيّة العمل مع الرصيف البحري الأميركي، الذي يتولى الجيش الإسرائيلي تأمينه، من دون أن تكون مشاركة في انتهاك حقوق الإنسان". ويضيف: "لو أكملنا العمل مع القوات الأميركية، كان سيُنظر إلينا كشركاء في ما حصل، ما قد يُعرّض قوات الإغاثة لخطر جسيم".
وكانت تقارير أفادت عن مخاوف لدى مسؤولين أميركيين من تعرّض الرصيف العائم إلى هجمات من حركة "حماس"، بعد معلومات عن تقديم واشنطن معلومات عن الرهائن لتل أبيب قبل هجوم النصيرات، وانتشار مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يُظهر مروحية إسرائيلية تُقلع من الشاطئ حيث المنطقة المخصصة للمساعدات والرصيف الأميركي في الخلفيّة.
ورفضت القيادة المركزية الأميركيّة هذه "المزاعم"، وأكدت في بيان أنّ "الرصيف ومعداته وأفراده وأصوله لم يتم استخدامها بعمليّة إنقاذ الرهائن في غزة".
"غطاء إنساني لبايدن"
ولعلّ ما كتبه ستيفن سيملر، أحد مؤسسي معهد "كونسي"، في أحد منشورات المؤسسة كان الهجوم الأقسى على المشروع الأميركي، إذ اعتبر أنّ "الرصيف لم ينجح إلا في توفير غطاء إنساني لسياسة إدارة بايدن بدعم القصف الإسرائيلي لغزة".
كذلك، انتقد العديد من الجمهوريين في الكونغرس المشروع بسبب تكلفته والمخاطر المحتملة على القوات الأميركية التي يشارك 1000 عنصر منها في المهمّة. وقال السيناتور روجر ويكر، وهو عضو جمهوري كبير في لجنة القوات المسلحة، إنّ "هذه التجربة غير المسؤولة والمكلفة تتحدى كل المنطق باستثناء التفسير السياسي الواضح: استرضاء الجناح اليساري المتطرّف للرئيس".
هذه الآراء تدعم وجهة نظر المشككين بنوايا بايدن بمساعدة الفلسطينيين بالأصل والذين يعتبرون أنّها خطوة "لذرّ الرماد في العيون وتهدئة الرأي العام"، خاصة وأنّ الأمر المفاجئ الذي وجّهه للبنتاغون بإنشاء الرصيف بسرعة قياسيّة تزامن مع حملة انتقادات شديدة تعرّض لها لعدم بذله جهوداً كافية لكبح جماح الهجوم الإسرائيلي على غزّة وإيصال المساعدات الإنسانية للسكان المعرّضين لخطر مجاعة حقيقي.
إلا أنّ المصدر في المنظمة الإغاثيّة يؤكّد أنّ الرصيف "ساهم بالفعل بإيصال آلاف الأطنان من المساعدات" خلال الأيام القليلة التي عمل بها، لكنه يشدّد في الوقت ذاته على أنّه "لا يمكن أن يكون كافياً حتى لو عمل بكامل طاقته".
ويوضح أنّ "المنظمات الإنسانية أبلغت المعنيين منذ البداية أنّ المساعدات عبر الجو والبحر لا يمكن أن تعوّض إقفال المعابر البريّة أمام شاحنات الإغاثة، فكلّ ما هو موقّت لا يُعوّل عليه".
ويتابع: "جميع المعابر البرّية مُغلقة باستثناء كرم أبو سالم في مدينة رفح، التي تشهد مخاطر قتاليّة وعمليّات عسكريّة متواصلة، ما يعني فعليّاً أنّه لا يمكن لهذا المعبر أن يؤدي الغرض المطلوب منه".
ويُعتبر معبر رفح واحد من أهم طرق عبور المساعدات، وجرى عرقلة إدخال الشاحنات منه مرات عدّة خلال الحرب قبل أن يُغلق نهائياً في 7 أيار (مايو) بعد سيطرة الجيش الإسرائيلي عليه. ورفضت مصر إعادة فتحه قبل أن يعاد تسليمه إلى إدارة فلسطينيّة. لكن الشكوك ازدادت بشأن صلاحيّة استخدام المعبر في وقت قريب بعدما سُرّبت صور تُظهر تدمير الإسرائيليين لغالبية مرافقه الرئيسيّة.
وبجميع الأحوال، فإنّ مرور المساعدات ليس كافياً بالنسبة للمنظمات التي تطالب بـ"توفير جوّ آمن لتوزيعها على المحتاجين فعلاً، وهذا يتطلب تأمين الطرق وضمان عدم استهداف الأطقم الإنسانية" خلال تأديتها لعملها.