النهار

لجلب المواد الغذائية... تجار غزة يواجهون القصف ويدفعون الرشا
المصدر: رويترز
يصف محمد التاجر الغزاوي عملية توصيل المواد الغذائية للقطاع بأنها جحيم.
لجلب المواد الغذائية... تجار غزة يواجهون القصف ويدفعون الرشا
من غزة (ا ف ب)
A+   A-
يصف محمد التاجر الغزاوي عملية توصيل المواد الغذائية للقطاع بأنها جحيم.

وقال لرويترز: "أتعرض للموت مع كل شحنة"، موضحا أنه يتعين عليه دفع أكثر من 14 ألف دولار مقابل كل شاحنة من المواد الغذائية يجلبها إلى القطاع المحاصر لدفع تكاليف النقل الباهظة ورشا للوسطاء وللحماية من اللصوص، وهو ما يزيد عن مبلغ كان يتراوح بين 1500 و4000 دولار قبل اندلاع الحرب في تشرين الأول (أكتوبر).

وأردف قائلا: "الأمر لا يستحق العناء. لكنني بحاجة إلى الطعام، وجيراني وغزة كلها بحاجة إلى الطعام".

وذكر محمد أنه اضطر إلى زيادة الأسعار على بعض المواد الغذائية الطازجة مثل منتجات الألبان والفواكه والدجاج إلى عشرة أمثال قيمتها لمجرد أن تعادل الإيرادات المصروفات، رغم علمه بأن هذا يجعلها بعيدة عن متناول العديد من سكان غزة الجياع.

وتحدث هو و17 شخصا آخرون أجرت رويترز مقابلات معهم، ومعظمهم تجار وموظفو إغاثة في غزة مطلعون على وضع الإمدادات، عن حالة من الفوضى كثيرا ما تجعل استيراد المواد الغذائية أمرا خطيرا أو مكلفا للغاية بالنسبة للتجار حتى مع تحذير وكالات الإغاثة من تزايد خطر المجاعة.

وطلب العديد منهم عدم نشر أسمائهم بالكامل حتى يتسنى لهم الحديث بحرية. وقال تجار مثل محمد إنهم يخشون من انتقام العصابات في القطاع أو من قيام الجيش الإسرائيلي بإدراجهم على القائمة السوداء بسبب التحدث علنا.

ووفقا للأشخاص الذين تمت مقابلتهم، تشكل تكاليف النقل بالشاحنات الجزء الأكبر من الأموال التي تنفق على استيراد المواد الغذائية.

وقالوا إن السائقين في إسرائيل رفعوا الأجرة بما يصل إلى ثلاثة أمثال بسبب هجوم المحتجين الإسرائيليين على الشاحنات المتجهة إلى غزة.

وأضافوا أن السائقين يضطرون في كثير من الأحيان إلى الانتظار بالشحنات لعدة أيام إما بالقرب من نقاط انطلاقها في الضفة الغربية المحتلة أو معبر كرم أبو سالم الحدودي بين إسرائيل وجنوب غزة لتخضع لتفتيش الجنود الإسرائيليين قبل أن تنال الموافقة على دخول القطاع مما يزيد من ارتفاع التكاليف.

وقالت المصادر لرويترز إنه بمجرد وصول البضائع في النهاية إلى غزة يبدأ الجزء الأصعب من الرحلة.

وذكر حمودة، وهو تاجر آخر يستورد الخضراوات المحفوظة والدواجن ومنتجات الألبان من الضفة الغربية، أنه إما يدفع أموالا للعصابات في القطاع أو يستأجر مسلحين للوقوف فوق الشحنات ومنع اللصوص.

وقال: "الأشخاص الذين استعين بهم من الأصدقاء أو الأقارب، وأحتاج من ثلاثة إلى خمسة تقريبا لكل شاحنة".

في الوقت نفسه، قال ثمانية تجار إن بضائع القطاع الخاص لم تصل إلى شمال غزة حيث تقول وكالات الإغاثة إن الجوع بلغ مبلغه لأن الجيش الإسرائيلي أغلق تلك المنطقة أمام الشحنات التجارية.

وأكد اثنان من موظفي الإغاثة أن الغذاء الوحيد المتاح في شمال غزة يأتي عن طريق المساعدات وأنه لا توجد سلع تجارية للبيع. ولم يعلق الجيش الإسرائيلي على عدم توفر مواد غذائية للبيع في الشمال حيث تقع مدينة غزة وضواحيها.

ويقول الجيش الإسرائيلي، الذي يشرف على تنسيق المساعدات في غزة، إنه يسمح بدخول مواد غذائية من إسرائيل ومصر تكفي جميع السكان. وأقر بأن وكالات الإغاثة تواجه "صعوبات" في نقل المواد الغذائية بمجرد دخولها عبر نقاط العبور، التي تشمل معبر كرم أبو سالم، لكنه لم يحدد ما هي هذه الصعوبات.

وقال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي لرويترز إن توزيع المساعدات في غزة "مهمة معقدة لأنها منطقة حرب محتدمة".

وأضاف: "إسرائيل ملتزمة بالسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة من أجل السكان المدنيين... وسوف تسهل ذلك مع الالتزام بالاعتبارات العملياتية على الأرض".

وذكر الجيش الإسرائيلي بدون الخوض في تفاصيل أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تستغل "البنية التحتية الإنسانية لتلبية احتياجاتها العسكرية".

ونفت حماس استغلال المساعدات وقالت إنها لا تتدخل في عملية توصيل المواد الغذائية. وأكدت أن التجار يستعينون بحراس مسلحين لحماية شحناتهم لكنهم ليسوا على صلة بها.

وقال إسماعيل الثوابتة مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إن هدف الحركة الأساسي هو تخفيف معاناة سكان غزة.

"انهيار شبه كامل للقانون"
تعاني عمليات توصيل المواد الغذائية لسكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، ومعظمهم نازحون، من التعقيدات البيروقراطية والعنف منذ اندلاع الحرب بعد هجوم حماس على جنوب إسرائيل في السابع من تشرين الأول ورد إسرائيل بقصف القطاع واجتياحه مما أدى إلى تدميره.

وهناك نوعان رئيسيان من المواد الغذائية التي تدخل القطاع‭:‬ المساعدات الدولية وهي إمدادات تقدمها أو توزعها في الأساس الأمم المتحدة من مواد غير قابلة للتلف سريعا، مثل الأرز والدقيق (الطحين) والمعلبات والتي شكلت الجزء الأكبر من الواردات خلال الحرب، أو الشحنات التجارية التي تضم منتجات طازجة لازمة لتجنب سوء التغذية.

وسمح الجيش الإسرائيلي باستئناف شحنات المواد الغذائية التجارية من إسرائيل والضفة الغربية المحتلة في أيار بعدما شن هجوما على مدينة رفح، وهي بوابة دخول رئيسية من مصر، مما أدى إلى انخفاض كبير في تدفق مساعدات الأمم المتحدة على القطاع المدمر.

ورويترز، التي بثت تقارير عن استئناف الشحنات التجارية، هي أيضا أول وسيلة إخبارية تقدم تفاصيل عن التكاليف والفوضى التي واجهها تجار غزة وأعاقت جهودهم لاستيراد المواد الغذائية الطازجة وبيعها في أسواق القطاع ومتاجره.

وقال تجار وعمال إغاثة إن الهجمات على الشاحنات المحملة بالغذاء تصاعدت منذ شنت إسرائيل هجومها على رفح في السابع من أيار، وهو الهجوم الذي أدى إلى نزوح 1.5 مليون شخص كانوا يحتمون بالمدينة بعدما فروا من القتا في أماكن أخرى.

وذكر ستة من عمال الإغاثة المشاركين في تسليم المواد الغذائية أن إمدادات الأمم المتحدة، التي لا تزال تدخل غزة عبر كرم أبو سالم أو المعابر الشمالية، أكثر عرضة للعصابات الإجرامية لأن الوكالات التابعة للمنظمة الدولية لا تستطيع دفع تكاليف الحماية المسلحة على عكس الشركات الخاصة. وقدر أحدهم أن حوالي 70 بالمئة من شاحنات المواد الغذائية تعرضت للهجوم.

وقال فيليب لازاريني المدير العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لرويترز: "نواجه انهيارا شبه كامل للقانون والنظام إذ يتعرض سائقو الشاحنات للتهديد أو الاعتداء بشكل منتظم... نُهب عدد كبير جدا من الشاحنات".

وذكر التجار الثمانية أن الصعوبات التي تواجهها وكالات الإغاثة تعني أن الشحنات التجارية بدأت تشكل نسبة أكبر من المواد الغذائية التي تدخل غزة رغم أن التدفق لا يزال غير منتظم.

وأضافوا أن إمدادات القطاع الخاص تشكل ما بين 20 إلى 100 شاحنة يوميا تحمل كل منها ما يصل إلى 20 طنا من الغذاء منذ بدء هجوم رفح.

وتظهر بيانات عسكرية إسرائيلية أن 150 شاحنة مساعدات وشاحنة تجارية محملة بمواد غذائية في المتوسط دخلت القطاع يوميا خلال هذه الفترة.

وهذا العدد أقل بكثير من 600 شاحنة تقول الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إنها مطلوبة يوميا لدرء خطر المجاعة.

وذكر عمال الإغاثة الستة أن المواد الغذائية التي يجلبها التجار للقطاع باهظة الثمن ولا يمكن أن تكون بديلا للمساعدات الدولية التي تحملت تكاليفها بالفعل الدول والمنظمات المانحة.

وقال ماجد القيشاوي من المجلس النروجي للاجئين في غزة: "زادت تكلفة بعض المواد بما لا يقل عن 15 ضعفا".

وأضاف: "السلع الأساسية... اختفت من السوق بسبب الانخفاض الحاد في المساعدات وتراجع وصول الشاحنات التجارية".

هجمات المحتجين الإسرائيليين
وصف تجار توصيل المواد الغذائية من الموردين في إسرائيل والضفة الغربية إلى قطاع غزة بأنها رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر رغم أن المسافة لا تتعدى 160 كيلومترا على الأكثر، فضلا عن أن العقبات تبدأ في الظهور تباعا قبل حتى وصول البضائع إلى القطاع الذي تمزقه الحرب.

ومنع محتجون إسرائيليون العديد من الشحنات المتجهة إلى غزة، والتي ينقلها سائقون إسرائيليون أو فلسطينيون لديهم تصريح للعمل في إسرائيل، أو هاجموها في أيار في موجة من العنف دفعت الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على جماعة متورطة لها صلات بالمستوطنين الإسرائيليين. وبرر المحتجون أفعالهم بأنهم كانوا يحاولون منع وصول الإمدادات إلى حركة حماس.

وقال تاجر آخر يدعى سمير إن السائقين الإسرائيليين بصفة خاصة رفعوا الأجرة بسبب الهجمات بمقدار ثلاثة أمثال في كثير من الأحيان مضيفا أنهم يطلبون ثلاثة آلاف دولار مقابل رحلة تبلغ قيمتها ألف دولار.

وتابع قائلا إن الشاحنات غالبا ما تنتظر في طوابير طويلة قبل دخولها إلى القطاع، مما يكلف المستوردين بين 200 إلى 300 دولار يوميا عن كل شاحنة.

وبحسب 18 مصدرا مختلفا من بينهم مسؤولون فلسطينيون وغربيون، فإن السبب في تأخير إدخال الإمدادات إلى القطاع يعود إلى ازدحام شديد في المعابر الحدودية.

ولم يتسن لرويترز التحقق بشكل مستقل من الازدحام على حدود غزة نظرا لأن إسرائيل تمنع في الغالب الصحفيين من دخول القطاع ومن الوصول إلى المعابر الحدودية التابعة لها.

وقال تجار وموظفو إغاثة إن الجيش الإسرائيلي علق لمدة أسبوعين في بداية حزيران إدخال جميع السلع التجارية كي يتسنى له الانتهاء من الإفراج عن المساعدات المتراكمة.

وشارك أحد التجار رسالة نصية تلقاها من أحد منسقي الجيش الإسرائيلي المسؤول عن إدخال الإمدادات في التاسع من حزيران يخبره فيها أن إدخال الشحنات التجارية "معلق حتى إشعار آخر" لكن رويترز لم يتسن لها التحقق من صحة الرسالة.

وقالت المصادر إن الحركة التجارية عادت إلى العمل مجددا بحلول عطلة عيد الأضحى يوم 15 حزيران.

الرشا ومشاكل الأمن
قال التجار إنه بمجرد السماح بإدخال شحنات الأغذية إلى قطاع غزة، يتم تحميلها على شاحنات أخرى يقودها سائقون محليون لتوزيع البضائع على البائعين في القطاع.

وأضافوا أن الطرق في مدينتي رفح وخان يونس اللتين تقعان في جنوب القطاع، كانت تعتبر آمنة نسبيا قبل اجتياح القوات الإسرائيلية لرفح، لكن باتت في الوقت الراهن معروفة بتعرضها لهجمات.

وقال ثلاثة عمال إغاثة إن عمليات نهب الشاحنات أصبحت تحدث بشكل يومي فيما قدّر التاجر حمودة أن عدد الشاحنات التي تُنهب الآن يزيد بنحو ستة أمثال مقارنة بالفترة قبل اجتياح رفح.

وذكر حمودة أنه يتم استهداف الشاحنات التي تحمل سلعا نادرا ما تدخل القطاع مثل اللحوم والفاكهة الطازجة، كما تشن عصابات هجمات على الكثير من الشاحنات الأخرى لتهريب بضائع داخل شحنات الأغذية، وخاصة التبغ.

وشارك أحد التجار في غزة صورة لسجائر مهربة داخل بطيخة مجوفة لكن لم يتسن لرويترز التحقق من صحتها.

ووفقا لتجار قالوا إنه ليس لديهم أي نقطة اتصال أو تنسيق مع السلطات العسكرية الإسرائيلية أثناء وجود شاحناتهم في غزة، فإن العمليات الإسرائيلية المستمرة تمثل أيضا إحدى العقبات.

وأضافوا أنه في حال جرى إغلاق طريق ما بسبب القتال أو القصف، فلن يكون لديهم طريقة لاكتشاف بديل آمن، كما لا يمكن إيصال هذه المعلومات إلى سائقي الشحنات التابعة لهم لأنهم في الغالب يكونون في منطقة خارج تغطية الهواتف المحمولة.

وقال ثلاثة تجار إنهم بدأوا الشهر الماضي في دفع مبالغ كبيرة إلى رجال أعمال فلسطينيين لديهم نفوذ وتنسيق منتظم مع الجيش الإسرائيلي بهدف ضمان دخول بضائعهم وتأمين شاحناتهم حتى تصل إلى وجهتها النهائية.

وقال التجار، الذين أحجموا عن ذكر هوية رجال الأعمال، إن هذه الخدمة وحدها يمكن أن تكلف ما يصل إلى 14 ألف دولار لإيصال البضائع إلى وجهتها بأمان.

وذكر أحد التجار ويدعى أبو محمد أنه يحسب بدقة الآن مكسبه مشيرا إلى أنه بعد رفع الأسعار لتعويض تكاليف النقل، يكسب بضع مئات من الدولارات فقط أو يغطي التكاليف دون أي ربح إضافي.

وأضاف أنه يخاطر بخسارة كل أمواله في حال نهب الشحنة.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium