مشهد سوريالي بامتياز في الولايات المتحدة. الجمهوريون في الكونغرس يصفّقون بحرارة لخطاب بنيامين نتنياهو التصعيدي أمام الكونغرس، بينما يدعو مرشّحهم الرئاسي دونالد ترامب في الوقت عينه إلى إنهاء الحرب وعودة الأسرى بسرعة. في حين أنّ الديموقراطيين الذين لم توفّر إدارتهم أيّ وسيلة لدعم إسرائيل عسكرياً وسياسياً في حربها على غزّة، بقيادة جو بايدن وتوجيهه، فقد قاطع نصفهم الخطاب.
بالنسبة لمن يتابع تصريحات ترامب وقراراته منذ بروزه في الحياة السياسية الأميركية، لن يتفاجأ أبداً بما يصدر عنه من آراء مثيرة للجدل، قد تتفق مع توجّهات الحزب الجمهوري أو تختلف بشكل جذري عنها، إذ إنّه اشتهر بالتفرّد بالرأي وإلزام الإدارة بأي قرار يراه مناسباً من وجهة نظره، كما يمكن أن يُبدّل موقفه سريعاً من أي قضيّة بما يخدم توجهاته التي يلخصها بشعار "أميركا أوّلاً".
ومن أبرز التقلبات المعروفة، العلاقة مع صديقه "بيبي"، فترامب الذي يعتبر نفسه "أكثر ولاء من أي رئيس آخر لإسرائيل"، واعترف بالقدس عاصمة لها، ونقل السفارة الأميركية إلى هناك، وحسّن علاقاتها مع دول عربيّة فاعلة من خلال اتفاقيات "أبراهام"، اعتبر أنّه تعرّض للخيانة من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي سارع إلى تهنئة بايدن على فوزه بالرئاسة عام 2020 قبل صدور النتائج الرسمية، فوصفه ترامب بأنّه "عديم الولاء"، وكشف أنّه "تخاذل" عندما انسحب من عمليّة اغتيال قاسم سليماني. ومؤخراً حمّل نتنياهو مسؤولية فشل صد هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) وتحدّث عن استبداله.
لقاء بين ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض، كانون الثاني (يناير) 2020.
بالعودة إلى غزّة، سبق أن أكّد ترامب أنّ هذه الحرب، كما الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ما كانت لتحدث لو كان رئيساً، منتقداً بشدّة أداء بايدن وإدارته للملف.
وقبل ساعات من لقائه نتنياهو في منتجعه في بالم بيتش بولاية فلوريدا، دعا ترامب مرتين بشكل صريح إلى إنهاء الحرب في غزة: الأولى عندما نشر رسالة تضامن تلقاها من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إثر محاولة اغتياله خلال تجمع انتخابي، وأرفقها بتعليق: "أتطلع للقاء بيبي، وأتطلّع أكثر إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط". وكتب بخط يده رداً على رسالة الرئيس الفلسطيني: "محمود. لطف منك. أشكرك. كل شيء سيكون على ما يرام. أطيب التمنيات". أما المرة الثانية فكانت في تصريح لـ"فوكس نيوز"، قال فيه إنّ "إسرائيل بحاجة لإنهاء الحرب واستعادة الرهائن بسرعة"، وعليها أن "تحسن إدارة علاقاتها العامة".
تصريحات ترامب تشي من دون شك برغبته في إنهاء هذه الحرب، لكنّه لم يقدّم بعد أيّ تصوّر واضح لكيفية فعل ذلك، مع أنّ الترجيحات تميل إلى نيّته الضغط باتجاه إتمام صفقة لدى توليه الرئاسة، تكون "أولى انجازاته" الخارجية التي سينطلق منها لاستكمال مشروع دمج الدولة العبرية بمحيطها العربي الذي بدأه قبل خروجه من البيت الأبيض، ما يعطيه مجالاً أوسع للتفرغ لإيران وتفعيل سياسة الضغوط القصوى عليها مجدداً.
وفي عددها الأخير، نشرت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية مقالاً بعنوان: "رهان نتنياهو على ترامب قد يعود عليه بالخيبة"، ذكرت فيه أنّ بعض الخبراء الإسرائيليين لاحظوا اختلاف اللغة المستخدمة في خطاب ترامب الجديد عمّا تعهّد به في برنامج العام 2016، مشيرة إلى أنّ "الرئيس الثاني ترامب ربما يكون أكثر حرصاً على إخماد النيران في الشرق الأوسط مما يدرك نتنياهو".
ويقول خبير في الأمن القومي مطّلع على التفكير داخل حملة ترامب: "الأمور المتعلقة بإسرائيل لا تزال في صندوق أسود وأكثر غموضاً من أجزاء أخرى من سياسته". ويضيف: "لكنني أود أن أشير إلى أن ترامب كان ينتقد نتنياهو، ومن الواضح أنه غير سعيد به كفرد، ومرة أخرى لدى ترامب ميول نحو عقد صفقة. لن أتفاجأ إذا كان أكثر برودة تجاه نتنياهو وكان أقل استعداداً للقيام بأشياء مثل ضم الضفة الغربية أو غزة".
لكن لا شيء مؤكّد حتى اللحظة، وفي حال لم يتم التوصّل إلى صفقة بين إسرائيل وحركة "حماس" سنكون أمام أشهر طويلة من القتال في الشرق الأوسط قبل أن يتمكّن ترامب من استعادة قدرة التحكم بالقرار الأميركي، إذا فاز بالسباق الرئاسي.
على المقلب الآخر، يبدو أنّ الديموقراطيين الذين دعموا نتنياهو منذ بداية الحرب، محبطون من زعيم "الليكود"، الذي أتى بخطاب ناري إلى مبنى الكابيتول، وناور إدارتهم لأشهر من دون أن يمنحها "نصراً معنوياً" تصرفه في انتخابات الرئاسة رغم حاجتها الماسة إلى أي إنجاز يسدّ الثغرات التي خلّفها السقوط المدوي لبايدن.
وفي حين يبدو أنّ نتنياهو لن يرضى إلا بـ"نصر كامل" في غزّة، وفقاً لتعبيره، يقيه فخّ السقوط السياسي، تسعى الإدارة الديموقراطية للتوصّل إلى اتفاق لوقف النار وعودة الأسرى في اللحظات الأخيرة، يكون ورقة رابحة لاستمالة الأصوات الناخبة العربية والمسلمة لصالح كامالا هاريس أو من يتمّ اختياره مرشحاً رسمياً للحزب.
من هذا المنطلق، تصدّرت "الصفقة" أجندة الاجتماعين اللذين عقدهما نتنياهو مع بايدن وهاريس أمس. الرئيس وخليفته المحتملة مارسا ضغوطاً كبيرة على رئيس الحكومة الإسرائيلية تزامناً مع تسريبات مكثفة سبقت اللقاءين عن قرب انجاز الصفقة. وللعلم فقد غابت هاريس عن كلمة نتنياهو في الكونغرس على الرغم من أنّه كان يفترض وفق البروتوكول أن تترأس الجلسة، وبررت غيابها بـ"ضيق الوقت" لارتباطها بالحملة الانتخابية.
لكن هل من المتوقّع أن يستجيب نتنياهو؟
نحن أمام احتمالين، ألا يقدّم رئيس الحكومة الإسرائيليّة الصفقة كإنجاز لإدارة بايدن الذي لم يتبق له سوى أشهر في الحياة السياسية الأميركية، فهذا الأمر يُمكن أن يُضرّ بترامب، الحصان الرابح الذي يراهن عليه نتنياهو، وآخر ما يريده هو مواجهة "الغضب الترامبي" الآن. أما الاحتمال الآخر فهو عقد اتفاق موقت خلال فترة العطلة الصيفية للكنيست، فلا يكون هناك خطر على إسقاط الحكومة، وفي الوقت نفسه يمنح نتنياهو الجيش الإسرائيلي المنهك فترة راحة تحضيراً للجولة المقبلة، التي يمكن لترامب حينها أن يوقفها أو أن يوسّعها نحو حرب شاملة.