في مقابل الحاجة الملحة للرئيس الأميركي جو بايدن إلى تهدئة في غزة قبل انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي في شيكاغو الأسبوع المقبل، لا تشي التطورات المتسارعة في المنطقة بإمكان فتح ثغرة في هذا الاتجاه.
أتى البيان الأميركي - المصري - القطري الذي حدد الخميس موعداً لمعاودة مفاوضات وقف النار، بمثابة مسعى الفرصة الأخيرة للتوصل إلى هدنة في غزة تفسح المجال أمام خفض التصعيد في عموم المنطقة، بعد اغتيال إسرائيل الزعيم السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران والقائد العسكري لـ"حزب الله" فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتهديد إيران والحزب بالرد، ما دفع الولايات المتحدة إلى إرسال تعزيزات عسكرية غير مسبوقة إلى المنطقة لمساعدة إسرائيل على مواجهة الردين.
وسط هذه الأجواء المحمومة التي زادها سخونة تلويح مسؤولين إسرائيليين بضربة استباقية في المنطقة، ارتكب الجيش الإسرائيلي فجر السبت مجزرة في مدرسة لإيواء النازحين في حي الدرج وسط مدينة غزة. وفور وقوع المجزرة، سرت مخاوف من أن ينعكس هول الحدث على المسعى الأميركي الجديد لبث الحياة في مفاوضات وقف النار. ذلك أن "حماس" بقيادتها الجديدة تواجه موقفاً حرجاً، في وقت لا تريد أن تلام على إجهاض أي مسعى جدي لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني في القطاع.
أما في حقيقة الأمر، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، هو الذي يرفض وقف النار، وكل قراراته منذ العودة من زيارته للولايات المتحدة أواخر تموز (يوليو) الماضي وحتى قبل ذلك، تنحو نحو التصعيد والهروب من استحقاق وقف النار.
في هذا السياق، تصير وظيفة مجزرة حي الدرج، هي تفجير مفاوضات الخميس وجرّ المنطقة خطوة إضافية نحو الهاوية، والعمل على توريط إدارة بايدن في حرب واسعة النطاق على أبواب الانتخابات الرئاسية.
من شأن أي اشتعال في المنطقة وتورط القوات الأميركية فيه، أن يغرق حملة المرشحة الديموقرطية كامالا هاريس ويقضي على فرصها بالفوز.
ملاحظة مهمة يجدر التوقف عندها أيضاً، وهي أن هاريس لا تريد أن تأتي مصادقة المؤتمر الوطني الديموقراطي على ترشيحها رسمياً في شيكاغو، وسط أجواء شبيهة بالمؤتمر الذي انعقد في شيكاغو عام 1968، للمصادقة على ترشيح هوبرت همفري. عامذاك، كانت الاحتجاجات تجتاح الشوارع المحيطة بالمؤتمر للمطالبة بوقف حرب فيتنام. وانتهت الانتخابات بهزيمة المرشح الديموقراطي لأنه كان محسوباً على التيار المؤيد للحرب بينما كان المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون يزعم أنه يريد وقف الحرب.
هاريس تسير الآن على حبل مشدود، محاولة التمايز عن بايدن ولو في النبرة، كي تستعيد القاعدة التقدمية وأصوات الأميركيين العرب، الذين يعتبرون أن الرئيس تساهل كثيراً مع مراوغات نتنياهو وتملصه من مساعي وقف النار، على رغم أن الرئيس نفسه كتب ذات مرة على صورة أهداها إلى نتنياهو أنه "لا يصدق كلمة يقولها... لكنه يحبه".
إن وضع إدارة بايدن ثقلها خلف موعد الخميس وإيفادها مدير وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إي" وليم بيرنز للمشاركة في المفاوضات وأنباء عن مجيء وزير الخارجية أنطوني بلينكن، تؤشر إلى إدراك متزايد لدى الديموقراطيين أن هذه فرصتهم الأخيرة للتهدئة في غزة، وتالياً إنقاذ حملة هاريس وتفادي ملاقاتها مصير همفري في 1968.
والرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي يقول إنه قادر على إيقاف الحروب بمكالمة هاتفية يتنكب دور نيكسون، الذي زعم أنه يريد وقف حرب فيتنام، لكنها استمرت خمسة أعوام بعد وصوله إلى الرئاسة.
ويحصي ترامب الآن كل التفاتة من هاريس في الموضوع الفلسطيني، ويتهمها بأنها تحابي "حماس"، ويذكّر عند كل مناسبة بما قدمه لإسرائيل. قال أمام حشد انتخابي الأسبوع الماضي إن "كل يهودي أميركي يصوت للديموقراطيين في تشرين الثاني، ينبغي فحص قدراته العقلية... أنا أعطيت إسرائيل الجولان ونقلت السفارة الأميركية إلى القدس واعترفت بها عاصمة أبدية لإسرائيل".
ومن المعروف أن نتنياهو يميل غريزياً إلى ترامب. ولا بد أن الديموقراطيين يخشون أن يستمر رئيس الوزراء الإسرائيلي في المماطلة حتى الانتخابات الأميركية، فلا يقدم وقف النار هدية لحملة هاريس، بل يستخدم الحرب ومناخات التصعيد، لخدمة حملة ترامب، الذي في حال فوزه، سيضمن لنتنياهو بقاءه السياسي حتى موعد الانتخابات الإسرائيلية في 2027، ويكون بمنأى عن المحاسبة عن إخفاق 7 تشرين الأول وتهم الفساد.