كان الأسبوع الماضي حافلاً للرئيس الفلسطيني محمود عباس، إذ تنقل بين العاصمة الروسيّة موسكو حيث التقى الرئيس فلاديمير بوتين وبين أنقرة حيث ألقى خطاباً أمام الجمعية العامة للبرلمان التركي، في جلسة استثنائية بحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
عكست المحطة الأولى اهتمام الكرملين بأحداث الشرق الأوسط، على رغم انشغاله بالحرب الأوكرانية، خصوصاً أن لقاء عباس جاء في خضم الهجوم الأوكراني المضاد في الأراضي الروسية في كورسك. وفي اللقاء أوضح بوتين أن الجميع يدرك جيدا "أنه يتعين على روسيا اليوم، للأسف، الدفاع عن مصالحها وشعبها بالسلاح. لكن ما يحدث في الشرق الأوسط، ما يحدث في فلسطين، بطبيعة الحال، لا يمر من أمامنا مرور الكرام".
أما الزائر الفلسطيني فقد شدّد على سبل تجنب توسع الحرب إضافة إلى "تنفيذ فتوى محكمة العدل الدولية، وحصول دولة فلسطين على عضويتها الكاملة، وعقد مؤتمر دولي للسلام".
بعد يومين، كانت محطة أنقرة في 15 آب (أغسطس) حيث أعلن أبو مازن عزمه التوجه إلى غزة والقدس: "قررت التوجه مع جميع أعضاء القيادة الفلسطينية إلى قطاع غزة وسوف أعمل بكل طاقتي لكي نكون جميعاً مع شعبنا لوقف هذا العدوان الهمجي، حتى لو كلفنا ذلك حياتنا، فليست حياتنا بأغلى من حياة أصغر طفل من قطاع غزة أو من الشعب الفلسطيني... إحنا مش أغلى... ونحن نطبق أحكام الشريعة، النصر أو الشهادة".
في الشكل، رأى البعض أن دعوة عباس لإلقاء خطاب أمام البرلمان بدعوة من الحكومة التركية، بمثابة ردّ من أنقرة على زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن وإلقائه كلمة أمام الكونغرس.
وفي الحالتين كانت تُقاطع الكلمة بالتصفيق وإبداء الدعم، كما أن المدة الزمنية للخطابين كانت متقاربة إلى حدّ كبير لا يتجاوز الفرق بينهما 5 دقائق.
في المضمون، فإن كلمة الرئيس الفلسطيني، رأى فيها البعض "خطاباً استشهادياً" وهجومياً، على عكس الخطابات السابقة التي كانت دائماً تركز على الحلّ الدبلوماسي والسياسي، فيما نظر إليه البعض الآخر على أنه جاء متأخراً و"فاته أن الشعب الفلسطيني، أصبح يدرك أن خياره هو المقاومة، وليس حالة الاستجداء والضعف التي تعيشها السلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني الذي يرفضه كل فلسطيني".
الانقسام الفلسطيني
ومن دون الدخول في تحليل للأسباب التركية وراء هذه الخطوة، فإن عزم الرئيس الفلسطيني على مثل هذه الزيارة، مع طلب مؤازرة دولية له إن تحققت، سيكون له تداعيات على الملف الفلسطيني الداخلي، لاسيما بعد جولات الحوار بين حركتي "فتح" و"حماس" برعاية صينية، والتي يبدو واضحاً أنها لم تحقق أهداف المصالحة بين الطرفين.
والزيارة المزمعة نظرت إليها الأطراف المختلفة بشكل متناقض، في انعكاس للخلاف السياسي، وهنا ترى "حماس" أن تصريحات الرئيس عباس هي فقط "للاستهلاك الإعلامي". ويقول مصدر للحركة في بيروت، فضل عدم ذكر اسمه، إن رئيس السلطة "لوّح بهذا الأمر أكثر من مرّة لكنه لم يفعل"، وأن قطاع غزة محاصر منذ أكثر من 17 عاماً و"لم نسمع أن الرئيس يريد أن يفك الحصار ويرسل المساعدات إلى القطاع".
ويتابع المصدر حديثه لـ"النهار العربي" أن خطاب رئيس السلطة في أنقرة جاء "منفصلاً عن تطلعات الشعب الفلسطيني وطموحه، وحديثه عن النصر والشهادة يكذبه الواقع في الضفة الغربية".
على النقيض من ذلك، تقول حركة "فتح" إن أبناء القطاع أعربوا عن ترحيبهم بالزيارة، وأنهم يتطلعون إليها. وفي هذا الإطار يشير مدير المركز الوطني للسياسات السياسية منير الجاغوب، إلى أن الخطاب جاء متلازماً مع المرحلة خصوصاً، وأن الرئيس الفلسطيني "معروف عنه أنه براغماتي ومعتدل"، لكن بعدما أمعنت إسرائيل في قتل الشعب الفلسطيني وتشريده، وانتهاك كل الحرمات "جاء الخطاب انطلاقاً من ما يحدث للشعب الفلسطيني، وهو رئيس هذا الشعب ويعيش معاناته وهو تحت الاحتلال مثله".
ومن ملاحظات "حماس" على كلام عباس، أنه لم يأت على ذكر تقديم المساعدات للقطاع أو إلى "صمود المقاومة"، وعوضاً عن ذلك ذهب ليتكلم عن المقاومة السلمية "التي تطبق منذ 30 عاماً منذ اتفاقية أوسلو ولم تجلب الأمن والاستقرار للفلسطينيين، بل على العكس زاد الاستيطان، وباتت أوصال الضفة مقطعة والاقتحامات متكررة بشكل يومي".
بالمقابل، يعيد الجاغوب التأكيد على توصيف الخطاب بأنه "استشهادي" لأنه ضاق ذرعاً بممارسات الاحتلال والسياسة الأميركية وممارستها التي تقدم كل أنواع الدعم السياسي والعسكري، وتغطي على جرائمه في مجلس الأمن وتمنع صدور قرار لوقف الحرب. ويعود بالذاكرة إلى زمن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، عندما أصر على أن تكون أريحا في الضفة وقطاع غزة أول جزء من الدولة الفلسطينية التي استلمتها السلطة ومنظمة التحرير، للتأكيد على الرابط الجغرافي بين الضفة والقطاع. بالتالي الزيارة وتوحيد الأراضي الفلسطينية سوف يجابهان بشراسة من قبل الاحتلال الاسرائيلي، "لأن الاحتلال منذ انقلاب حماس على السلطة وهو يهدف الإبقاء على حالة الانقسام، وأن لا يكون هناك أي وحدة بين الضفة والقطاع"، وعليه فإن زيارة عباس هي جزء من الوحدة الفلسطينية الجغرافية والسياسية.
رسالة مبطنة
الرئيس الفلسطيني تحدث عن زيارة القدس، وهذه الإشارة مع كل ما تحمل من رمزية للصراع في جوانبه المختلفة، فيها أيضاً رسالة إلى المجتمع الدولي الذي يطالب بحلّ الدولتين، على اعتبار أنه المدخل الوحيد لإنهاء الصراع.
وفي معرض حديثه لـ"النهار العربي" يقول المصدر في "حماس" إن على من يريد الذهاب إلى قطاع غزة "عليه أن يوقف التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني، فهذا عدو واحد في الضفة والقطاع. وعليه التوقف عن قمع التظاهرات وملاحقة المقاومين... وعلى السلطة أن تنتقل إلى مربع المقاومة".
لكن برأي مدير المركز الوطني للسياسات السياسية، فإن المقصود من التحضير لمثل هذه الزيارة القول للعالم "إما أن تساعدونا وإلّا فإننا ذاهبون باتجاه العهد القديم، لأن السلام لم يحقق آمال الشعب الفلسطيني، ما يعني أنكم تأخذوننا باتجاه المواجهة المفتوحة مع الاحتلال، ولا ينعتنا أحد بعد ذلك بالإرهاب، لأننا نمارس حقنا القانوني بمواجهة الاحتلال والعودة إلى أراضينا".
وينهي الجاغوب كلامه لـ"النهار العربي" بالقول إن رسالة عباس كانت واضحة وقد "التقطها الاسرائيليون والأميركيون بشكل جيد".