منذ اندلاع النزاع بين روسيا وأوكرانيا، خشي كثر من تصاعده إلى "حرب عالمية ثالثة" أو "حرب نووية". كان القلق يتزايد عندما خرقت أوكرانيا ما تصنفه روسيا "خطاً أحمر" مثل قصف القرم أو الحصول على أسلحة هجومية (برية أولاً ثم جوية) أو عبر احتلال أراض روسية كما حدث في كورسك. لم تكتفِ روسيا بعدم تصعيد الحرب وحسب – في ما خلا استهداف منشآت مدنية أوكرانية – بل إن ردها على غزو منطقتها كان بطيئاً جداً. قريباً، يدخل احتلال أوكرانيا لكورسك شهره الأول، وروسيا لا تزال تركز جهدها على التقدم في دونيتسك. إذاً، بالرغم من كل ما حدث، لم يقع المحظور.
وكان لهجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) وما تلاه من غزو إسرائيلي لقطاع غزة مفعول إثارة مخاوف مماثلة. تزايد القلق مع استمرار تدخل "حزب الله" في الحرب، وتصعيد إسرائيل المواجهة معه من خلال استهداف أبرز قادته الميدانيين ومقراته في الضاحية الجنوبية لبيروت. منذ الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في سوريا وصولاً إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران، كانت فترة الأربعة أشهر هذه هي الأصعب على الشرق الأوسط. مع ذلك، تبيّن أن رد "حزب الله" ضعيف ولا يرقى إلى إعلان حرب، وربما يتبين الأمر نفسه مع الانتقام الإيراني المحتمل لاغتيال هنية. إذاً، لماذا لم يؤدِ التصعيد في كلا المسرحين إلى حرب واسعة لغاية اليوم؟
فكرة مغلوطة
قيل إن الحروب غالباً ما تقع من دون إرادة أطرافها وإنما عن طريق اجتماع أسباب قاهرة. لا يوافق الجميع على ذلك. في مجلة "وورلد بوليتيكس ريفيو"، رأى الأستاذ المشارك في قسم العلوم السياسية ضمن جامعة شيكاغو بول بوست أن الحروب تندلع عادة لأن طرفاً واحداً على الأقل يريدها. ويفنّد تصوّراً قديماً يقول إن الحرب العالمية الأولى حصلت لأن الظروف فرضتها لا لأن أوروبا أرادتها. صحيح أن الأوروبيين لم يحددوا موعداً للحرب في صيف 1914، لكنهم مع ذلك كانوا يستعدون للقتال طوال سنوات كما أوضح. في الوقت نفسه، أشار إلى دراسات أكاديمية تظهر أن الحروب عادة ما تصبح متعددة الأطراف في الأسبوع الأول لاندلاعها لا في المراحل اللاحقة.
إدارة التصعيد
على الأرجح، تساهم طريقة إدارة التصعيد في خفض رغبة الأطراف بحرب واسعة. ربما نجحت إدارة بايدن في تفادي انفلاش الحرب الأوكرانية بسبب بطء توريد الأسلحة الكاسرة للتوازن إلى أوكرانيا. لو أرسلت أميركا كل الأسلحة الحديثة دفعة واحدة أو على دفعات متقاربة (على افتراض أن جيشها قادر على الاستفادة سريعاً منها) لربما جرّ الأمر روسيا إلى حرب أوسع أو إلى استخدام السلاح النووي. لهذه السياسة كلفتها على واشنطن. إن البطء في إرسال الأسلحة الهجومية يقلل من القوة الكامنة لأوكرانيا وبالتالي يضعف الغاية التي خُصصت لأجلها تلك الأسلحة. على الأرجح، تجد واشنطن هذه الكلفة ضئيلة بالمقارنة مع حرب تجر "الناتو" إليها. مع ذلك، ليس الأمر أن استخدام روسيا للسلاح النووي سهل.
في هكذا سيناريو، ستجد موسكو نفسها في عزلة وقد تخسر حتى دعم شريكتيها الهند والصين. وأوضح جنرالات أميركيون متقاعدون أن الرد قد يتمثل بتدمير الغرب للجيش الروسي في غضون أسابيع. بالرغم من أن هذا التهديد يمكن ألا يعبّر عن نوايا أو خطط الإدارة الأميركية، يبقى أن روسيا تأخذ بالحسبان انتقاماً مماثلاً. بالتالي، تبدو خيارات موسكو محدودة. من هنا، يصبح من الأنسب لها مواصلة تركيز هجومها على الشرق الأوكراني، أي بتعبير آخر، من الأنسب لها ألا توسع الحرب.
نتائج مشابهة
في الشرق الأوسط، يمكن تلمس حسابات مماثلة ولو مع اختلاف في آليات الضغط. عمد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى كسر لعبة التصعيد المعتادة والتي تبدأ بعملية اغتيال كبيرة ثم التراجع إلى الدفاع لامتصاص الانتقام. بدلاً من ذلك، اختار الجيش الإسرائيلي ارتقاء سلم التصعيد بشكل متسارع فاغتال القائدين العسكريين لـ "حماس" محمد الضيف ولـ "حزب الله" فؤاد شكر، إضافة إلى اغتيال هنية، في نحو أسبوعين. والفارق بين اغتيال شكر وهنية كان مجرد ساعات وحسب.
أيضاً، لا يمكن نسيان القصف الإسرائيلي العنيف الذي حصل في الفترة نفسها لميناء الحديدة رداً على ضرب الحوثيين لتل أبيب بطائرة من دون طيار. كان ذلك إشارة ضمنية إلى أن إسرائيل مستعدة لإشعال حرب إقليمية لأنها تملك اليد العليا استخبارياً، إلى جانب ترسانتها العسكرية. لكن الاستعداد لها والرغبة بها أمران مختلفان. ليس خوض حربين سهلاً خصوصاً إن كان الداعم الأكبر لإسرائيل يرفض، إلى حد بعيد، الحربين برمتهما. وأوضح رد الحزب أنه غير مستعد لإشعال حرب وأنه يفضل خوضها في حال فُرضت عليه فقط عبر غزو بري. ليس سهلاً أيضاً الانخراط في حرب وسط خسارة عدد من القادة الميدانيين المتمرسين، الأمر الذي ينعكس سلباً على سلسلة القيادة والإمرة.
كذلك، إن "التباطؤ" الإيراني في الرد على إسرائيل، وامتناع الحوثيين لغاية اليوم عن الانتقام لقصف الحديدة، يشيران إلى حسابات بضبط النفس لدى الجانبين.
قاعدة... ولكن
يقدّم الشرق الأوسط وشرق أوروبا دليلاً على قاعدة أن الحروب لا تندلع عن طريق الصدفة بل حين يشعل أحد الأطراف فتيلها بشكل مقصود. يكتب يوليان بورغر في صحيفة "ذا غارديان" البريطانية أنه "لو أرادت إسرائيل وحزب الله حرباً شاملة لحصلت منذ فترة طويلة".
هو لا يستبعد، بالرغم من ذلك، وقوع تلك الحرب في المستقبل. ولا أحد يستطيع استبعادها تماماً على أي حال. في نهاية المطاف، لكل قاعدة استثناءاتها. لكن بوست، الأستاذ المساعد في جامعة شيكاغو، أكثر ميلاً للقول إن الحرب الواسعة اليوم باتت أقل، لا أكثر احتمالاً: "جميع الحروب هي حروب خيار، وهذا يسري على توسيعها أيضاً".