هل وقعت إسرائيل في فخِّ "وهم الشجاعة" فأصبحت تضرب الأهداف الإيرانية في سوريا بغض النظر عن دلالاتها ورمزيتها ومن دون أن تحسب حساباً للتداعيات التي يمكن أن تترتب عليها؟ أم أن إيران التي أدّبتها الولايات المتحدة في أعقاب استهداف الميليشيات العراقية قاعدة البرج 22، وجدت نفسها في موقع في غاية التعقيد، وفي حالة حصار وضغط شديدين، فأصبحت تستمرئ تسويغ الضربات ضدها كيلا تضطر إلى الردّ؟
يطرح هذان السؤالان نفسيهما بعد النقلة النوعية في استهداف إسرائيل المواقع الإيرانية في سوريا، منتقلة من ضرب المستودعات وخطوط الإمداد وشحنات الأسلحة، إلى استهداف مباشر لأهم الشخصيات العسكرية التي تعتمد عليها طهران في إدارة الصراع في المنطقة، والتي كان آخرها تدمير مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة دمشق، ما أسفر عن مقتل عميدين وخمسة ضباط آخرين، في ضربة وصفت بأنها الأخطر من نوعها التي تتلقاها إيران في سوريا.
توّج استهداف القنصلية الإيرانية أسبوعاً حافلاً بالغارات الإسرائيلية التي كانت قد ضربت قبل يومين منطقة معامل الدفاع في السفيرة، شمال حلب، وأسقطت عشرات الضحايا في حصيلة هي الأثقل من نوعها من حيث العدد منذ سنوات، كما استهدفت مركز البحوث في جمرايا وقبله استهدفت مدينة دير الزور. وكانت تل أبيب قد دشنت استراتيجيتها الجديدة قبل أشهر قليلة، وتحديداً أواخر العام الماضي، عندما اغتالت الجنرال رضي موسوي المسؤول المباشر عن تنسيق "محور المقاومة".
ورغم أن حصيلة استهداف القنصلية كانت ثقيلة جداً من الناحية البشرية، إذ أسفرت عن مقتل الجنرال محمد رضا زاهدي الذي كان معروفاً في سوريا باسم حسن المهدي، وكان يتولى قيادة "فيلق القدس" في سوريا ولبنان، وكذلك نائبه محمد الحاج رحيمي، بالإضافة إلى ضباط رفيعي المستوى، غير أن الصدفة وحدها هي ما منعت من أن تكون الحصيلة أشد من ذلك بكثير، إذ ذكرت مواقع سورية أنه كان من المفترض أن يحضر الجنرال رضا فلاح زادة نائب القائد العام لـ"فيلق القدس" إسماعيل قآني الاجتماع الذي ضم الجنرالات الإيرانيين في مبنى القنصلية، غير أنه تأخر عن الاجتماع لأسباب مجهولة، ما جعله ينجو من الاستهداف، ولولا ذلك لكانت تداعيات العملية قد ذهبت إلى مكان آخر مختلف تماماً، بحسب مراقبين للشأن السوري والإيراني. وقد رصدت الكاميرات وجود فلاح زادة في محيط السفارة الإيرانية أثناء زيارة وزير الخارجية السوري لتفقد موقع الهجوم.
غير أن نجاة فلاح زادة لا تقلل من خطورة الحدث، لا سيما بالنسبة إلى رمزيته المتمثلة في استهداف مبنى ذي طابع دبلوماسي، في خطوة هي الأولى من نوعها قد تشكل تدشيناً لمرحلة جديدة من التصعيد من دون أي اعتبار لأي خطوط حمر، وقد وصفت صحيفة "الوطن" السورية العدوان الإسرائيلي بأنه الأخطر على المنطقة.
وتميل معظم التحليلات في الأوساط السياسية السورية إلى الاعتقاد أن المخاطرة الإسرائيلية باستهداف مبانٍ دبلوماسية تشكل خرقاً للقانون والمعاهدات الدولية، وتصب في خانة التأزّم الذي يعانيه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في حرب الإبادة التي يشنها منذ 6 أشهر ضد قطاع غزة، حيث لم يستطع تحقيق أي هدف من الأهداف المعلن عنها للحرب سوى تدمير القطاع وتهجير أهله.
ويتوافق هذا التحليل مع وجهة النظر الإيرانية التي عبّر عنها وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان بقوله إن "نتنياهو فقد توازنه العقلي تماماً، بسبب الإخفاقات المتتالية للكيان الصهيوني في غزة وعدم تحقيق الصهاينة أهدافهم العدوانية".
غير أن تحليلاً آخر بدأ يطفو على السطح وإن كان على خجلٍ، ومفاده أن ما يُعتبر مغامرة إسرائيلية قد يكون خطة متقنة يجري تنفيذها بالتدريج عبر التصعيد في اختيار الأهداف، ما سيؤدي في النهاية إلى زعزعة الوجود الإيراني في سوريا. ويعتبر أنصار هذا الرأي أن تل أبيب بدأت تنفيذ استراتيجيتها الجديدة المتمثلة في استهداف القادة الإيرانيين شخصياً ومباشرةً منذ أشهر، وأنها درست ردّ الفعل الإيراني بدقة منذ اغتيال رضي موسوي، ولما لم تجد أي اعتراض فعلي أو تهديد لأمنها جراء هذه الممارسات، أصبحت أكثر جرأة في تنفيذ باقي بنود خطتها التي كان آخرها ضرب مبنى القنصلية في وضح النهار.
وجاءت الضربة الإسرائيلية لمبنى القنصلية بعد أقل من أسبوعين على زيارة وزير الدفاع السوري علي محمود عباس لطهران ولقائه نظيره الإيراني محمد رضا أشتياني، وقد ركّزت التصريحات في أعقاب اللقاء على أن "مواجهة هجمات الكيان الصهيوني تستلزم إيجاد قوة الردع، والإجراءات والخطط الضرورية والعاجلة لمنع غطرسة هذا الكيان مدرجة في جدول الأعمال"، وأن "أي خطأ استراتيجي أو مغامرة من جانب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ستؤدي إلى تفاقم الوضع في المنطقة".
ومع ذلك ارتفعت وتيرة الهجمات الإسرائيلية منذ ذلك اللقاء، بل أصبحت شبه يومية، حتى أن بعض الإحصاءات ذكرت أن ما نفذته إسرائيل خلال ثلاثة أشهر منذ بداية العام الجاري يعادل ما كانت تنفذه بالعادة خلال عام كامل، وهي مقارنة تنبئ بوجود إرادة إسرائيلية بالتصعيد، وبيقين بأن الرد الإيراني لن يجد الوقت المناسب لإرساله، كما هدد مسؤولون إيرانيون، في المدى المنظور.
ويرى بعض المتفائلين أن ما يجري هو تطبيق إيراني حاذق لمبدأ "الصبر الاستراتيجي" وأن إيران رغم خسائرها الكبيرة لا تمانع في جرّ الكيان الصهيوني إلى حافة الهاوية عبر إيهامه بعدم قدرتها على الردّ قبل أن تفاجئه بضربة موجعة كما حصل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عندما أطلقت "حماس" عملية طوفان الأقصى.
ولكنّ ثمّة تخوفاً بدأ يسري في أوساط السوريين من أن يكون لدى حكومة بنيامين نتنياهو ما يشبه الاقتناع بأن بلدهم أصبح يشكل الحلقة الأضعف في الصراع الجاري، وأن تطورات حرب غزة والمناوشات على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية قد تؤدي بشكل أو بآخر إلى اندلاع حرب كبيرة فوق الأراضي السورية لتصفية الحسابات التي تراكمت بين الأطراف المتصارعة خلال الأشهر المنصرمة.
ولا تقتصر خسارة طهران جراء الغارات الإسرائيلية المتصاعدة والمنفلتة من أي قيد على مجرد الخسائر البشرية والعسكرية، بل بدأت أصوات تعلو مشككة في جدوى الوجود الإيراني في سوريا. وطرح الدكتور أمجد بدران، في كلية الاقتصاد، وهو محارب سابق وكان يقود كتيبة سورية في معارك الغوطة، سؤالاً على إيران عن سبب وجودها في سوريا وهل هو لمجرد تلقي الضربات. وكتب على صفحته في "فايسبوك": "سؤال للإخوة الإيرانيين من شخص خاض معارك ربما لم يخضها كثير من الجنرالات الإيرانيين: إنتو جايين لعنا تاكلو ضرب وقتل؟ ما هي فكرتكم؟ وأي أسلوب عسكري مبتكر تناورون به؟".
وأضاف أنه "أياً يكن هذا الأسلوب فإننا كسوريين لا نرى على الأرض أي نتيجة".